الإثنين 12/مايو/2025

الأقصى بين الهدم والتحرير

الأقصى بين الهدم والتحرير

إغلاق المسجد الأقصى الذي جرى الخميس 30 أكتوبر/تشرينالأول الماضي، في أعقاب إصابة الحاخام الصهيوني المتطرف يهودا غليك، هو الأول مننوعه منذ قيام دولة الاحتلال.

رغم ذلك فهو لم يكن منفصلاً عن البرنامج التدريجي الضخمالذي تنفذه السلطات الصهيونية منذ عقود، لكنه تعزّز بصورة كبيرة في آخر عشر سنوات،ثم توقف بحذر خلال حركة الربيع العربي، وعاد بقوة غير مسبوقة بعد حصار الربيعوإسقاطه خاصة في مصر، بعد فقدان كامل التوازن النسبي الذي تصاعد في عواصم رسميةبعد الثورات قبل سحقها.

وهذا يعني أن حسابات تحريك المشروع الصهيوني المعلن عنهموسمياً وسنوياً لتقسيم أو هدم المسجد الأقصى في الاحتفالات الدورية للهيكلالمزعوم، وتصعيد هجومه على المصلين وعلى الحرم القدسي، كان ضمن توقيت دقيق لتلأبيب لاستثمار هذه الأجواء المتصاعدة الخانقة للوضع العربي وحرية الشعوب، وخاصة فيظل إشعال حرب التحالف الدولية والهدف المشترك الذي يتجاوز داعش (تنظيم الدولةالإسلامية) إلى تعزيز حصار كلي سيصنع فوضى عشوائية أو مخططة لخريطة المشرق العربي.

وهو واقع يعززه التوافق الثلاثي بين واشنطن وحلفائهاوالمشروع الإيراني الطائفي والنظام الرسمي العربي المساند لهذه الحملة المستعرة فيجغرافيا الربيع المستنزف والمحاصر، ولذلك التقطتها الحركة الصهيونية المُنظِمةلسياسات وأحزاب وحركات “إسرائيل” المتعددة في داخل فلسطين المحتلةوخارجها في دول الإسناد الغربي وخاصة الولايات المتحدة لتتعامل مع هذا الواقعالعربي بدقة في دحرجة زحفها لهدم أو تأميم المسجد الأقصى.

كما تبني أيضاً على واقع حصار غزّة وما بعد العدوانعليها، وما تعيشه القضية الفلسطينية من دائرة ضغط شديد لمحاصرة فكر المقاومةوشعبيتها التي تمددت وتطورت في ظل صعود مشروع الحركة الإسلامية في فلسطين المحتلةعبر حماس، كما أن للمشروع التوافقي دوراً متزامناً في خنق العمل الإسلامي ومطاردةمنسوبيه اليوم في الوطن العربي والتضييق عليهم في تزامن دقيق مع قضية استهدافالمسجد الأقصى وصعود الدفع الصهيوني لاستهدافه.

وأمام هذا الضغط قد يبدو لكثيرين من داخل العالمالإسلامي أن هذا الحصار الشرس والزحف على المسجد الأقصى وتطويق وخنق الحرياتواستهداف الإسلاميين يسير في اتجاه واحد وهو الحرب الكبرى في الوطن العربي والشرقالأوسط، وهي قضية مرتبطة لديهم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم عن معركة فاصلة بيناليهود والمسلمين شرقي النهر (الأردن) وغربيه (الضفة الغربية)، غير أن هذا النصوغيره لا توجد له دلالة قطعية ولو كان قطعي الثبوت، والأصل استفراغ الوسع الماديلتحقيق النصر ورد الاعتداء بعد التوكّل وليس ربط أحداث قد تكون تكررت وممكن أنيسقط عليها معنى الحديث النبوي الشريف في فترات سابقة أو لاحقة والله أعلم بها.

لكن الغريب أن فكرة الحرب الكبرى ليست فقط لدى المسلمينوالذين يرون سياقاتها متواترة ميدانياً وعياناً، ولكنها موجودة في محور التحليلالسياسي الغربي وقلقه، فضلاً عن النص الديني لدى جماعات مسيحية ويهودية تؤمنبحتمية هذه المواجهة، وهنا نحن نطرح هذا المسار في إطار التحليل السياسي المرصود،وأهمه تصريح نتنياهو رئيس حكومة الكيان الصهيوني بعد إغلاق الأقصى ورسائل الغربالقلقة عن الفوضى العامة في الشرق الأوسط ومحاولة تطمينه لهم واتهام الفلسطينيينبذلك وليس سياسات حكومته.

والمقصود أن نتنياهو اعترف بهذه الفكرة وتعامل معها، وهيأن قضية المسجد الأقصى وخصوصيته الاعتبارية المقدسة لدى المسلمين وفي ظل هذهالأوضاع قد تخلق ما سماها فوضى عامة تسقط معها مصالح الغرب كما تغرق الشرق بأحداثكبرى، وتجنب أن يُصرّح بالمعنى الخاص الذي يخشاه وتقلق منه واشنطن وهو سقوط أوتحييد الأنظمة المحيطة بفلسطين وغيرها والوصول الواقعي إلى مرحلة الحرب الكبرى،وشدّد على أنه يفهم هذا السياق ولا يريد أن تصل الأمور إليه، وهو يسترضي واشنطن.

في المحصلة المهمة لهذا الموقف وموقف الغرب وخاصةالإدارة الأميركية، نجد أن هناك استشعاراً كاملاً لواقع الضغط والانفجار في الوطنالعربي كما هو واقع مشروع الزحف تنفيذياً لتأميم أو هدم المسجد الأقصى، الذي تسعىالحركة الصهيونية لتنفيذه خلال هذه الفترة الزمنية للعشر سنوات القادمة بدءاًباقتطاع كنيس لليهود من أرضه المقدسة.

والقياس الذي تعاملت معه تل أبيب وواشنطن لم يأخذ الصورةالساكنة نسبياً للشارع العربي بعد عدوان الإغلاق، بل تعامل مع هشاشة هذا السكونلاحتمالية الانفجار خلفه رغم حركة التطويق الشرسة الرسمية له، وهو ما يعني أنالغرب وتل أبيب يبصران حالة الاختناق والقهر العربي رغم التوظيف للمؤسسة الرسميةضد الحريات الداعمة لاستقلالها ولفلسطين، ولذلك تعود سلسلة التدحرج الصهيونيللمشروع لدروات امتصاص الغضب ثم الحفر السياسي والتنفيذي لتحقيق تأميم المسجدالأقصى وحلم الصهاينة في الهيكل.

غير أن هذه الصورة التي يسعى الغرب وتل أبيب لتركيبهابهدوء، لا توجد لها ضمانات حقيقية، وخشيتهم من فوضى شاملة تصل للحرب الكبرى باتتموضوعية في سياق التحليل السياسي لكن ليس كما يشتهون بالضرورة في الختام، وحالةالغبن والقهر في الوطن العربي لا تزال تشكل عاملاً متحركاً نحو الحدث.

كما أن مشروع الحركة الإسلامية في فلسطين عبر حماس وحركةالشيخ رائد صلاح والمهجر، وما أنجزته من رابطة أممية ضخمة مع العالم الإسلاميوشعوبه من المتدينين وغيرهم ومن العرب والعجم، ومن محيط التطوع الإنساني، باتمشروعاً قائماً بالفعل، ليس من السهولة أن يُقهر فضلاً عن أن يُصفّى.

إن المهمة المركزية التي قررتها حركة حماس عند تأسيسهاعام 1987 بعد قرار استقلالها عن التنظيمات الإسلامية في الأردن ومصر وصناعة مشروعمستقل ومرتبط بكيان فلسطين وشعبه وأرضه ومتحد مع الأمة جغرافيا وديمغرافيا فيرابطة الوجدان والانتماء حول الأقصى، قد تحققت بالفعل وبشراكة مع جسمها الضمني فيالـ48 وأبناء المهجر، وأضحت قوة مترابطة، لم تخسر من عدوان غزة الأخير، ولن يكونمن السهل على سلطة رام الله اقتلاعها لو أقدمت على نقض المصالحة المتوقع.

إن المشروع المركزي لصناعة بنية تحتية لفكر وثقافة وشعبالمقاومة، قد تحقق بالفعل بين فلسطين ومناطقها وبين العالم الإسلامي، وعليه فإنمهمة التحرير اليوم للمسجد الأقصى، تم تأسيس بناء إستراتيجي لها عجز الإسرائيليونوحلفاؤهم عن تحطيمه، كواقع يرصد، وهذا لا يعني عدم التعرض لحالات من الحصار والقهروالتطويق له في داخل فلسطين أو من يمد العون لها من عمقها العربي الإسلامي، بل هذاواقع نعايشه، لكنها محاولات لم تصل للجذور والقواعد التي تحققت، وهو ما بات مهمةواضحة لكل من يريد دعم الشعب الفلسطيني وتحرير الأقصى فعرف عنوان الدعم الذي يوقفمشروع الهدم ويحوله لمشروع تحرير، متى وكيف قد لا يتضح، لكن المسار إليه جلي لمنيبصر.

وهذا ما يخشاه نتنياهو في تطميناته للبيت الأبيض، ومايُحس به في داخل أعماقه وينكره لسانه، تماماً كما يستشعره المستوطنون الذين يدفعونبكل قوتهم لإخراج كل فرد من المقدسيين أهل الأرض لمئات السنين لصالح غزاة متوحشين،يسكنهم فزع الغريب، الذي يشعر أن الأرض لم تستقر تحت أقدامه رغم رتل الدباباتفوقها، فالجذور تعود إليه لتقتلعه من جديد، فيسعى بكل قوته لهدم الأقصى كونه الرمزلحسم احتلاله الذي قد يفتح الباب لاقتلاعه وزوال مشروعه.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات