السبت 10/مايو/2025

السقوط في امتحان القدس

السقوط في امتحان القدس

بينما يقوم الاحتلال الصهيوني باستباحة أحد أقدس أماكنالعبادة لعموم المسلمين وهو المسجد الأقصى في القدس العربية المحتلة، فإن الإسلامالسياسي يدير ظهره لهذا الانتهاك الجسيم وينشغل بمعارك مع الإخوة في الدين، أو معالإخوة في الإيمان. إنها لمفارقة كبرى تكشف عن هزال هذا التسييس، وخواء هذاالاستخدام للدين من طرف تيارات وجماعات تكاثرت على مدى العقود الثلاثة الماضية،وبات تمزيق مجتمعاتها وتشويه صورة المسلمين هو شغلها الشاغل، وجهادها الذي لايتقدم عليه جهاد، رغم الادعاءات الكبيرة.

من العراق إلى سوريا إلى ليبيا إلى اليمن وبعد سنواتالجمر في الجزائر، في تسعينات القرن الماضي، تنكشف صورة الصراع الدموي المحموم علىالسلطة، ونزعة إقصاء الآخر المسلم بأي ثمن. وعلى نحو تتجلى فيه صورة مقيتة مفادهاأن المسلمين من خلال نفرٍ منهم، هم أتباع الديانة الوحيدة الذين يقتتلون فيمابينهم ويستبيحون دماء بعضهم بعضاً. وبالطبع فإن غالبية المسلمين بريئة مما يجري،لكن ما العمل وزعماء الطوائف والمذاهب والملل والنحل هم من يتصدرون المشهد، ودَعْكبعدئذ من الخطب المرفوعة والشعارات الطنانة، فالوقائع هي الفيصل والشاهد، ولسانهاناطق مبين.

كم ارتفعت خلال نحو خمسين عاماً الأصوات تتوعد الصهاينةوتضرب موعداً مزعوماً مع الاقصى بعد تحرير بيت المقدس. كم من حبر أريق، وكم منمهرجانات تم تحشيدها ومن مؤتمرات تم عقدها ومقالات جرى تدبيجها وخطابات جهورية تمارتجالها، ومناسبات وأيام سميت باسم المدينة المقدسة، وكلها تدور حول القدسوالمقدسات، فلما اشتد الخطر على الحرم الشريف وتكشفت أكثر فأكثر المشاريعالصهيونية باستهداف هذا المكان المقدس، إذا بزعماء الإسلام السياسي ينفضون أيديهممن وعودهم، وينصرفون بكليّتهم إلى صراعات طائفية مسعورة هنا وهناك من العالمالعربي. ولا يخطر ببال هؤلاء المتزعمين كيف للعدو أن يأخذ التهديدات والوعود مأخذالجد، وهو يرى إلى المسلمين يتطاحنون ويستبيحون بأنفسهم دور عبادتهم، وينكّلونبإخوتهم في الدين، ويغفلون بل يتعامون عما يحيق بالقدس والمقدسات من مخاطر داهمةمتفاقمة.

إن هذه الوقائع الدامغة تكشف عن خواء الإسلام السياسيبشتى فرقه وجماعاته وأحزابه وفروعه ومذاهبه، إلا من رحم ربي من مجموعات معتدلةسمحة تُحرّم سفك المسلم لدم أخيه المسلم، أو لدم أخيه في الإيمان، أو لدم أخيه فيالوطن وفي الإنسانية أيّاً كان دينه ومعتقده. لكن هذه المجموعات المعتدلة، غالباًما يتم ترويعها وإسكاتها من مجموعات متشددة متسيّدة، فلا يظهر لها صوت على المنابرولا يبدو لها حضور على المسارح، رغم أنها أقرب إلى دين الرحمة من بقية الجماعات،وأحرص على مصالح البلاد والعباد.

بفضل جماعات الإسلام السياسي المتقابلة في الخنادق، التييزعم كل منها أنه يمتلك وحده ناصية صحيح الدين والمعتقد، انطلقت رياح الطائفيةالبغيضة لتعصف بوحدة المسلمين وتُباعد ما بينهم، مما لم يشهد المسلمون ولاالمجتمعات العربية مثيلاً له في أصعب الحقب والمحطات، كما في حقبة الاستعمار والاحتلالالأجنبي مثلاً. وبينما شاعت على مدى عقود طويلة أطروحات عن سعي الأعداء والخصوملبث روح التفرقة وزرع الأسافين بين أبناء الدين الواحد والوطن الواحد، إذا بزعاماتوقيادات الإسلام السياسي تتولى بنفسها هذه المهمة في التفريق بين المسلمين، ثممباعدتهم عن بقية أبناء وطنهم، مع تظهير منازلة ومخاصمة الأخ في الدين، على أنهاتتقدم في الأهمية والاعتبار على أية مخاصمة ونزال مع الأعداء الخارجيين، وقد شاعتعبير الأعداء الداخليين لتسويغ هذا المنحى الخطير في تبديد طاقة الشعوب والإزراءبحقوق الإنسان والجماعات وتسميم العلاقات الأهلية. وبينما تتوجه الخصومة في البدءإلى جماعات وأحزاب وقيادات في الطرف الآخر، فإنها سرعان ما تنقلب وتنجرف نحو تعميمالخصومة ضد بيئة تلك الزعامات، وضد كل من يحمل معتقداً مغايراً في إطار العقيدةالواحدة. في هذه الظروف نما وظهر تنظيم داعش الإرهابي، ومن خلفه ومن حوله نمتوازدهرت دواعش أخرى، تحمل أسماء شتى، وتناصب داعش العداء، لكن دون أن يفترق سلوكهاعنه في تعميم الكراهية والعداء، واقتراف الفظائع بدم بارد بحق إخوتهم في الدينوالوطن، والفرق أنها تجنح إلى التكتم ولا تذيع جهاراً نهاراً ما ترتكب وتقترف كماتفعل داعش، التي تجمع بين الوحشية المريضة والاستعراض المشين.

أجل لقد سقطت جماعات الإسلام السياسي المختلفةوالمتقابلة في الخندقين، في امتحان القدس والأقصى، وأثبتت أنها لطالما استخدمتالدفاع عن المقدسات في بيت المقدس، كمنصة للصعود السياسي والاستيلاء على السلطةهنا وهناك، وتنفيذ أجندات خارجية، وللتغرير بجموع المؤمنين البسطاء واستتباعهم،فإذا ما حانت ساعة الجد والامتحان، إذا بجميع هؤلاء يديرون ظهورهم لبيت المقدس،ويصمّون آذانهم عن نداءاتها، بل ويستصغرون عملياً الاستنفار لنصرتها، وينهمكونبدلاً من ذلك في استباحة دماء أشقائهم المسلمين من أبناء جلدتهم، مع ما يلزم منتعبئة، رافعين خلال ذلك شعارات سقيمة مفادها وفحواها أن تنكيل جموعٍ من مسلمين،بجموعٍ من مسلمين آخرين، هو الذي يُمكّن من تحقيق المنعة للأوطان، ومن انتصارالمسلمين.

صحيفة الخليج الإماراتية

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات