تحرير.. ذكريات الطفولة سلبها الاستيطان بالخليل (تقرير)

تلتفت “تحرير” من نافذة غرفتها علها تتلمس القليل من ضوء الشمس؛ تفتح الستارة وتتأرجح نظراتها على الشارع المحاذي لمنزلها، ولكنها على الفور تزيح عينيها وتغلق النافذة وتعود لتقرأ في كتابها.
كم تمنت “تحرير الشرباتي” تلك الفتاة ابنة (18عاماً)، أن تربطها بمنزلها علاقة قوية كما في الوضع الطبيعي، ولكن الكلمة هذه لا تلتصق أبدا بحياتها وحياة عائلتها التي تقطن شارع الشهداء في مدينة الخليل جنوب الضفة الغربية، فالحياة هناك أشبه بالموت إن لم تكن أقسى وأشد عتمة، والساعات كلها مرهونة بمزاج المستوطنين الذين استولوا على عدة بنايات سكنية في المنطقة.
تعود تحرير بذاكرتها عدة أعوام إلى الوراء؛ كانت طفلة صغيرة تختال بشعرها الأملس وتلهو أمام منزلها، قبل أن تطلب منها والدتها أن تقطع الشارع فقط لترمي كيسا من النفايات، مشهد عادي بل يومي في كل المنازل، ولكنه لم يكن كذلك أبدا بالنسبة لتحرير وقتها.
تتحدث تحرير لـ“المركز الفلسطيني للإعلام”، بصوت متقطع وكأنها تعيش تلك اللحظة مرة أخرى، وتقول: “كنت أهم بقطع الشارع، فرأيت مركبة للمستوطنين متجهة نحو المنزل؛ فلم أكترث لأنها مركبة تمر دوما، ولكن حين تحركت من مكاني لاحقتني تلك المركبة بشكل متعمد فركضت بعيداً وحاولت الهرب؛ إلا أنها كانت أسرع من طفلة في العاشرة من عمرها”.
شعرت تحرير فجأة بجسم قوي ضخم يصدم جسدها وكان هذا آخر ما استذكرته؛ وبعد ساعات من عملية الدهس المتعمدة من قبل أحد المستوطنين لها، استيقظت من غيبوبتها لتجد نفسها في مشفى مكثت فيه أكثر من أربعة أيام، وعانت على إثر ذلك من كسور ورضوض.
ومهما حاولت “تحرير” أن تزيل تلك الصورة القاتمة من ذاكرتها، إلا أن كل ما في المنزل يذكرها بها، والآن هي طالبة في الثانوية العامة وتباغتها الرغبة في البكاء يوميا على الواقع المرير الذي تعيشه مع أشقائها وأبناء عمها، الذين يقطنون منزلا قديما في شارع الشهداء.
وتتابع القول: “في كل يوم أتوجه فيه إلى المدرسة أشعر بأن شيئا ما سيحدث لي ولإخوتي الصغار؛ فكلما مرت مركبة للمستوطنين أشعر بحالة من الخوف الشديد وأبتعد عن الشارع قدر الإمكان، وكلما رأيت مستوطنا يمر أرى فيه وجها قاتلا ظالما وألمس الخوف في عيون أشقائي الذين تعرضوا كلهم لاعتداءات”.
لا تكاد الحياة في شارع الشهداء تصل إلى أدنى مسميات الحياة الطبيعية؛ فالمنازل محاصرة والحركة ممنوعة، وكل شيء مراقب وتحت سيطرة الاحتلال “الإسرائيلي” دون أي رادع ولا محاسب.
مفيد الشرباتي (49 عاما)، والد الفتاة تحرير، يستذكر الحياة قبل احتلال المستوطنين لمجموعة من المنازل والممتلكات في ذاك الشارع، ينظر إلى سقف الغرفة ويغمض عينيه، ويرحل إلى سنوات خلت كانت فيها الأيام تمر جميلة صافية.
ويقول لـ“المركز الفلسطيني للإعلام”: “نحن نمتلك منزلنا هذا منذ أكثر من مئة عام وورثناه عن أجدادنا، وقبل عام 1981 كنا نجلس على شرفة المنزل نتنسم الهواء النقي ونحتسي فنجان القهوة كل صباح ونسمع زقزقة العصافير، ثم نتوجه إلى أشغالنا وننتظر ساعة العودة إلى المنزل ذي الحجارة القديمة والتقسيم الهندسي البسيط حتى نجلس على مائدة الغداء، ثم أغفو تحت ظل شجرة قريبة دون خوف أو وجل”.
ويتابع مضيفاً: “لكن الحال تغير بعد ذلك وأصبح المنزل كالسجن بل أكثر ضيقا؛ وفي العام 1981 تذرع المستوطنون بأن إحدى البنايات قتل فيها ستة “إسرائيليين”، فاستولوا عليها وسرقوها في وضح النهار بحجة تحويلها إلى مقام يخلد ذكراهم، وتوالت بعدها عمليات الاستيلاء على البنايات والمنازل حتى وصل عدد المستوطنين إلى أكثر من مئة في شارع الشهداء وحده ويرتفع إلى 450 في الأعياد والمناسبات اليهودية”.
ويحاول الشرباتي أن “يربط بمفارقات بسيطة شكل الحياة قبل قدوم المستوطنين وبعده؛ فشارع الشهداء كان الشريان الحيوي الذي يربط مدينة الخليل بالبلدة القديمة، وكان يعج بالمواطنين، بل إن الكل يفضل السكن فيه، أما الآن فهو مغلق وتتهدد العائلات القاطنة فيه في كل لحظة مطالبة بإخلاء منازلها لتُترك فريسة للمستوطنين.
ويتحدث الشرباتي بكل حزن، كيف تحول منزله الجميل الوادع القديم إلى سجن يحيط به سياج حديدي بسبب تكرار اعتداءات المستوطنين عليه كرشق الحجارة، وإلقاء الزجاجات الفارغة والحارقة في محاولة لترحيل سكانه، وكيف تحولت اللحظات الجميلة فيه إلى خوف وترقب، وكأنهم يقطنون في ثكنة عسكرية.
ويضيف: “أنظر كل يوم في عيون أطفالي لا أجد معالم تشبه تلك التي لدى كل الأطفال من الفرحة وحب الحياة واللعب؛ فأبنائي الثمانية كلهم تعرضوا لاعتداءات حفرت في ذاكرتهم؛ حيث أن ابنتي تعرضت لعملية دهس، والأخرى تعرضت لإصابة في عينها، وآخران تعرضا لعملية خطف، واثنان تعرضا لاعتداءات بالضرب والتنكيل”.
ولم يسلم الوالد ذاته من الاعتداء؛ حيث تعرض في شهر سبتمبر من العام الماضي للضرب من قبل جنود الاحتلال، حين كان يهم بإجراء إصلاحات في منزله، فهاجمه أكثر من 35 جنديا، وبدؤوا بضربه بقوة بأعقاب البنادق، ما أدى إلى غيبوبة استمرت سبع ساعات ونصفا، وكسور في أنحاء جسده، اضطرته لزراعة “البلاتين”، وآلام ما زال يعاني منها إلى الآن.
ورغم كل ما تعرض له وما زال، إلا أنه يرفض حتى التفكير في الرحيل ومغادرة منزله الذي عاش فيه طفولته والآن يربي فيه أطفاله، فهو ضريبة البقاء والثبات وثمن الصمود في وجه أحقاد المستوطنين، كما يقول.
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

حماس: المؤسسات الأممية هي الوحيدة المختصة بتوزيع المساعدات بغزة
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام قالت حركة حماس، إن المجاعة في قطاع غزة تشتدّ بشكل كارثي وسط استمرار الحصار ومنع دخول الغذاء والدواء. وأكدت في بيان...

إطلاق الأسير ألكسندر يفجر غضب عائلات باقي الأسرى على نتنياهو
الناصرة - المركز الفلسطيني للإعلام فجّر قرار حركة حماس إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي الأمريكي عيدان ألكسندر من قطاع غزة غضب عائلات باقي الأسرى...

حرّاس الأقصى يحبطون محاولة ذبح “قربان تلمودي” في باحات المسجد
القدس المحتلة - المركز الفلسطيني للإعلام أحبط حُرّاس المسجد الأقصى المبارك، صباح اليوم الاثنين، محاولة مستوطنين إدخال "قربان حي" إلى باحاته عبر باب...

مرصد عالمي: نصف مليون شخص يواجهون خطر الموت جوعًا بغزة
لندن - المركز الفلسطيني للإعلام قال مرصد عالمي لمراقبة الجوع الاثنين إن سكان قطاع غزة بأكمله لا يزالون يواجهون خطر المجاعة الشديد وإن نصف مليون شخص...

تحذير من انهيار القطاع الصحي بغزة مع تعمق النقص الحاد بالتجهيزات الطبية
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أعلنت وزارة الصحة في غزة، أن أقسام العمليات والعناية المركزة والطوارئ باتت تعمل بأدوات طبية مستهلكة وفي ظل غياب أصناف...

سجن جندي احتياط إسرائيلي لرفضه القتال في الضفة الغربية
الناصرة - المركز الفلسطيني للإعلام قالت هيئة البث الإسرائيلية إن جندي احتياط إسرائيليا سجن 5 أيام بعد رفضه المشاركة في القتال في الضفة الغربية...

رفض حقوقي للخطة الأمريكية الإسرائيلية لتوزيع المساعدات في غزة
المركز الفلسطيني للإعلام عبر المركز الفلسطيني لحقوق الانسان عن رفضه التام للخطة الجديدة التي تروج لها الولايات المتحدة الأميركية، بالتنسيق مع دولة...