الإثنين 12/مايو/2025

لـيـســـت «فوضـــى خــلاقـــة»

لـيـســـت «فوضـــى خــلاقـــة»

منذ سنوات، ومصطلح «الفوضى الخلاقة» يتردد في الأوساطالشعبية، إلى جانب تلك المسكونة بروح المؤامرة، والتي اتخذت موقفاً مناهضاً للربيعالعربي بعد وصوله إلى سوريا، ويتعامل بعضها مع أمريكا بوصفها رب الكون (بعضها لا يؤمنأصلاً بأن للكون رباً!!).

ينسى بعض هؤلاء أن أمريكا حتى مطلع الألفية الجديدة،وربما حتى منتصف العقد الأول من القرن الجديد، لم تعد هي ذاتها هذه الأيام. ففيحين كان يمكن حتى ذلك الحين الحديث عن أحادية قطبية، فإن الأمر يبدو مختلفاً هذهالأيام لجهة المشهد الدولي الأقرب إلى التعددية القطبية؛ بوجود قوىً ذات حضور كبيرمثل الصين وروسيا والهند والبرازيل، فضلاً عن أوروبا، وإن تفاوت تورط كل منها فيالشأن السياسي المباشر لمنطقتنا تحديداً؛ تبعاً لحسابات خاصة لكل منها.

كما ينسون أيضاً أنه ما من مشروع صاغته أمريكا (ومعهاالكيان الصهيوني الأكثر تأثيراً في سياستها الخارجية الشرق أوسطية) منذ مطلعالتسعينات وانتهى إلى النجاح، من مشروع أوسلو وحتى مشروع غزو العراق لإعادة تشكيلالمنطقة (كان الإرهابيون الظلاميون بحسب تصنيف بعض أولئك اليوم مقاومين أيامنشاطهم ضد الأمريكان)، فضلاً عن جملة المشاريع الرامية إلى إنجاز حل للمسألةالفلسطينية.

من يتحكم بالكون لا يحتاج لبث الفوضى، فهو يدير المشهدكما يشاء، والفوضى هي مسار يمكن أن يختطه من لا يملك القدرة على التحكم بالمشهد منالأساس، ورغم ذلك، فإن بث الفوضى ومن ثم التحكم بمخرجاتها يحتاج إلى قوة قادرة،الأمر الذي لا ينطبق على أمريكا هذه الأيام.

الذي لا شك فيه أن الربيع العربي قد فاجأ الولاياتالمتحدة، تماماً كما فاجأتها من قبل المقاومة العراقية؛ هي التي كانت تعتقد أنهاستتحكم بالعراق، وتديره في ظل انتداب عسكري، وتنتقل بعده إلى إيران وسوريا وكلالوضع العربي لتعيد تشكيله سياسياً وثقافياً، وربما جغرافياً أيضاَ، وبالطبع علىإيقاع المطالب الصهيونية.

وحتى عمليات الإجهاض التي تعرض لها الربيع في محطتهالأهم (مصر)؛ لم تكن بإدارة عملية من قبل الولايات المتحدة، بل كانت في شقها الأهممن فعل وتخطيط الدولة العميقة في مصر، وبدعم رهيب من محاور مهمة وذات قدرات ماليةفي النظام العربي الرسمي. صحيح أن ذلك كان برضاها ودعمها العملي (أعني الولاياتالمتحدة)، لكنه لم يكن ليتم لولا المعطيات الموضوعية العربية التي كان أهمها تشكلمحور أنظمة الثورة المضادة. ولا حاجة هنا إلى القول إن مفاجأة الثورة السورية كانتأكبر من سواها، وإن جرى التحكم بها بشكل أكبر؛ ليس من خلال الذكاء الأمريكي، بللأن إيران أصرت على الوقوف إلى جانب بشار، فتوافق ذلك مع الإستراتيجية الصهيونيةالرامية إلى إطالة أمد الحرب لتدمير البلد واستنزاف جميع الخصوم، بمن فيهم إيرانوتركيا وحزب الله والربيع العربي.

أما العنف الذي اجتاح سوريا وأفضى إلى منح دفعة قوية جداًلتيار السلفية الجهادية، ومن ثم تصدره من قبل تنظيم الدولة، فلم يكن من تخطيطأمريكا، ولا صلة لها به البتة، وهي ربما فوجئت به أيضاً رغم إدراكها لاحقاً لحقيقةأن الأمر كان من تخطيط النظام لكي يتفوق أمنياً وعسكرياً على الثورة، ومن أجل أنيتمكن من وصم للثورة بالإرهاب، رغم أن المشهد التالي قد فاجأه أيضاً.

وفي حين لم تكن أمريكا تريد في العراق مشهداً إقصائياًيعيد العرب السنّة إلى حمل السلاح ومساعدة تنظيم الدولة على استعادة قوته، فإنهالم تتحكم بالوضع على نحو يتيح لها ذلك، إذ وقع البلد أسير النفوذ الإيراني، وأسيرنخبة سياسية استحوذ عليها جنون القوة والهوس الطائفي.

الذي لا شك فيه أن أحداً لم يتخيل أن يصل الأمر بتنظيمالدولة حد التمدد على النحو الراهن، وهذه المفاجأة هي التي تقف الآن خلف الارتباكفي إدارة المعركة على نحو أظهرها بصورة حرب عالمية رغم أنها ضد تنظيم لم يكن ينتبهإليه أحد خارج السياق السوري والعراقي، مع قناعة لدى البعض بأن بالإمكان التحكمبالأمر في حال توفرت الرغبة في ذلك.

والنتيجة أن مشهد الفوضى الراهن لا يحركه أحد بمفرده، بلهو نتاج تدافع بين القوى في المنطقة، وهو يفضي إلى تحالف الأضداد أحياناً، كما أنأحداً لا يمكنه التكهن بمآلاته، ولا بصيرورة أحداثه وكذلك بالنسبة للمدى الزمنيالذي سيستغرقه. ولا يتوقف الأمر عند مشهد المعركة مع تنظيم الدولة، بل يشمل كذلكمسيرة ربيع العرب، ومصير المشروع الإيراني في المنطقة، بخاصة بعد ضربته الجديدة فياليمن، والتي ستفتح باب استنزاف جديد على إيران من حيث أرادته أداة استنزاف لآخرينيمكنها مساومتهم من خلاله على مصير بشار الذي يُعد الركن الأهم من بين أركان مشروعالتمدد الإيراني.

سنوات لا يُعرف مداها عنوانها الفوضى، ولكنها ليستالفوضى الخلاقة التي يتحدث عنها أولئك، بل هي الفوضى التي ينتجها المخاض التاريخيفي منطقة بالغة الحساسية للعالم أجمع، وحيث انتفضت أمة، ليس من أجل حريتها فيالداخل، بل من أجل التحرر من التبعية للخارج أيضاً؛ الاستعماري الغربي، والإيرانيالمُصاب بغرور القوة في آن.

صحيفة الدستور الأردنية

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات