السبت 10/مايو/2025

أسطورة الملاذ الآمن على المحك

أسطورة الملاذ الآمن على المحك

عندما طرح مشروع إعلان بلفور بصدد إعطاء إقامة وطن قوميلليهود في فلسطين على الحكومة البريطانية لمناقشته، عارضه اثنان من الوزراء: الأولكان لورد كيرزون، والثاني لورد مونتيغيو الوزير اليهودي الوحيد في الحكومة. عارضكيرزون الإعلان لأنه سوف يؤدي إلى إثارة غضب العرب والمسلمين وتأليبهم ضدبريطانيا، وفي النهاية ضد اليهود. وعارض الثاني الإعلان لأنه سوف يؤدي إلى إيذاءالمواطنين اليهود في البلاد التي يقطنونها وينتمون اليها، مقابل إرسال البعض منهموإسكانهم في “غيتو دولي في فلسطين”، هل أثبتت الأيام صواب هذه التنبؤات،أم أثبتت خطأها وصواب التنبؤات الصهيونية التي كانت تعد اليهود بملاذ آمن، ينتقلاليهود إليه من سائر أنحاء العالم ويستقرون فيه ويتمتعون فيه بالحرية والمساواةوبثمار جدهم واجتهادهم؟

يحرص الزعماء “الإسرائيليون” على التأكيد أن”إسرائيل” هي حقاً الملاذ الآمن الموعود، وعلى قيام هذا الملاذ يؤكدصواب التوقعات “الإسرائيلية” وبطلان التنبؤات المتشائمة التي صدرت عنمعارضي المشروع الصهيوني. ألا يضم هذا الملجأ قرابة السبعة ملايين من السكان؟ ألايتمتع هؤلاء بمستوى معيشي مرموق خاصة إذا ما قورنوا بأوضاع سكان المنطقة – ألاينعم “الإسرائيليون” بأوضاع أمنية مستقرة بالمقارنة مع دول المنطقةوخاصة مع “دول الطوق” المحيطة ب”إسرائيل”؟

في هذه التأكيدات بعض الصحة، ولكن هل تكفي لإضفاءمصداقية حاسمة على المشروع الصهيوني ولتقديم أجوبة مقنعة التساؤلات الكثيرة التيتتناول مصير هذا المشروع؟ إن الأوضاع في “إسرائيل” هي بالمعايير الأمنيةوالاقتصادية والاجتماعية أفضل من أوضاع دول المنطقة. ولكن هذه المقارنة لا تفضي،بالضرورة، إلى تأكيد صورة الملاذ الآمن، ولا تشجع على تلبية نداء الهجرة إلى”إسرائيل”، بل على العكس، تقدم أسباباً للتردد في الاستجابة إلى هذاالنداء حتى ولو اصطبغ بلون الواجب الديني أو الوطني. فمن يضمن ألا ترشح الصراعاتفي المنطقة العربية إلى داخل الأراضي العربية المحتلة؟

قد تكون المقارنة مفيدة، من وجهة نظر صهيونية، لو أنه لاشأن ل”إسرائيل” باضطرابات المنطقة وصراعاتها، ولا دور لها فيها، أي كماكان وضع سويسرا في المدار الأوروبي خلال الحرب العالمية الثانية. ولكن الوضع”الإسرائيلي” مختلف عن ذلك تماماً. فالصراعات التي اجتاحت المنطقتينالعربية والشرق أوسطية لها صلة مباشرة بقضية الصراع العربي-“الإسرائيلي”.

وسواء تصارع الزعماء العرب والزعماء الإقليميون مع بعضهمبعضاً بسبب الخلاف حول الطريق الأفضل لحماية المنطقة من التوسعية”الإسرائيلية”، كما يفسر هؤلاء الزعماء أسباب صراعاتهم، أو سواءاستخدموا الصراع مع “إسرائيل” كحجة لتبرير تدخلهم في شؤون دول المنطقةالأخرى ومحاولاتهم بسط السيطرة عليها، كما يفسرها الزعماء”الإسرائيليون”، فإن قضية فلسطين تبقى في قلب الصراعات في المنطقة.استطراداً فإن “إسرائيل” لا تستطيع الادعاء بأنه لا شأن لها بأوضاعالمنطقة، وأنها تقف حيالها كما وقفت سويسرا حيال الحرب العالمية الثانية. الزعماء”الإسرائيليون” يعرفون هذا الواقع ويعرفون أن الصراعات الدامية في الدولالمحيطة ب”إسرائيل” لها صلة وثيقة بالقضية الفلسطينية، وأنها، بالتالي،يمكن أن تمتد بسهولة إلى “إسرائيل”.

في عصرنا “المغوغل” يستطيع أي مهاجر محتمل إلى”إسرائيل” أن يطلع على هذا الواقع وأن يتأكد عبر كم لا حصر له منالمعلومات، من أن “إسرائيل” ليست بالملاذ الآمن الذي يروج له متعهدوالمشروع الصهيوني. إن قرار الهجرة إلى “إسرائيل”، أو بالأحرى من أي بلدإلى بلد آخر من بلدان العالم ليس من القرارات التي يتخذها الناس بسهولة. ومهماكانت دوافع الهجرة الاقتصادية أو السياسية أو العقائدية، فإن المهاجر المحتملبحاجة إلى أن يطلع على أوضاع بلد الهجرة و أن يتأكد من توفر مجالات العيش الآمنوالمستقر فيه.

المهاجر المحتمل إلى “إسرائيل” قد لا يعلم أنزعماء “إسرائيل” بحثوا جديا، في اليوم الثاني من حرب أكتوبر احتمال سقوطالملاذ الآمن، أو احتمال “تدمير” الهيكل الثالث على يد القوات العربية،وأنهم بحثوا أيضاً الخيار النووي، أي التهيئة لاستخدام السلاح الذري ضد العرب فيمالو تمكنت القوات العربية من إلحاق هزيمة ساحقة بالقوات “الإسرائيلية”.وبديهي أن مثل هذا الخيار لو نفذ لكان خياراً شمشونياً أي ينشر الموت بين العربو”الإسرائيليين” على حد سواء.

سوف يطلع المهاجر إلى الكيان العبري بهذه الحقائق وسوفيصعب عليه الاقتناع من بعدها بأن “إسرائيل” هي ملاذ آمن كما يروجالمشروع الصهيوني.

المهاجر المحتمل إلى “إسرائيل” سوف يدرك بسهولةأنه إذا ترك بلاده الأصلية وهاجر إلى الأراضي العربية سوف ينتقل إلى منطقة لا ترحببه، ولا تقبل بالمشروع ولا بالكيان الصهيونيين. وسوف يدرك في نهاية المطاف أن بينالمنطقة والمشروع الصهيوني ما يشبه العلاقة الديالكتيكية. المنطقة العربية سوفتكون ملاذاً آمناً لمن يأتيها كلاجئ وكإنسان يطلب العيش بكرامة وحرية. ولكنه إذاما جاءها ومعه مشروع سياسي استعماري استيطاني، وإذا ما جاءها ظاناً أن هذا المشروعسوف يوفر له الأمن والرخاء، فانه مشروعه سوف ينفي عن المنطقة صفة الفضاء الآمنوالمستقر، ويحولها إلى ما هو نقيض ذلك تماماً أي إلى منطقة الصراعات الدموية.

إن الأحوال الراهنة في المنطقة تثبت أن معارضي المشروعالصهيوني، مثل مونتيغيو وكيرزون كانوا على حق عندما قالوا إنه سوف يجر اليهود إلىالمآسي وإلى المزيد من الآلام والعذاب. كان هؤلاء أكثر حرصاً بما لا يقاس من مؤيديالمشروع الصهيوني الذين كانوا معادين للسامية وكانوا يرغبون في الخلاص من اليهودومن مطالب المساواة بين الأوروبيين، فجاءت الصهيونية لكي تلبي هذه الرغبة عن طريقتجميع يهود العالم في غيتو دولي في فلسطين.

صحيفة الخليج الإماراتية

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات