الإثنين 12/مايو/2025

النكبة الثانية

النكبة الثانية

من جديد، المسافة تتضاءل والتوقعات تزداد حجماً وتأخذأبعاداً لا نهايات لها، ترتشف مفرداتها من خيط ذكريات أسود يمتد من مخيم اللجوءالأول وحمل البندقية وشحذ فكرة العودة إلى وطن مغتصب، وتغليفها بمسحة دامغة من الأيديولوجيا،ولا تتوقف نهايته عند مسلسل الهجرات المتعاقبة ومحاولات ايجاد ملاذات جديدة فيجهات الدنيا الأربع، مروراً بضرورات استنباط حيوات جديدة في كل مرة تفرض الظروفنفسها، مقتلعة معها حياة كاملة الوضوح بمعالمها اللحظية ومآلاتها المستقبلية لتحلمحلها أخرى في متوالية لا تتوقف قط.

البعض يطلق عليها النكبة الثانية وآخرون النكسة الثانية،بينما حصيلة جمع بسيطة للأولى والثانية معاً وما بينهما من حالات وعمليات تهجيرقسرية، جمعية وفردية، تفضي بالضرورة الى نتيجة محتومة شقت طريقها، بقوة الحربوالاستبداد والتهميش والاقصاء، أخاديد في تاريخ ما يعرف بمنطقة الشرق الأوسط،وعنوانها الرئيسي اللعب على العامل الديموغرافي والمراهنة عليه في تثبيت التشوهاتالتاريخية التي ألحقها المشروع الصهيوني العالمي بالمنطقة جغرافياً وسكانياً.

صحيح أن مسلسل «موسم الهجرة إلى الشمال» المتواصل منذزمن بعيد يشمل سكان بلدان عربية وغير عربية عديدة، لكن الانسان الفلسطيني كان علىالدوام المستهدف الأول في هذا التحريك السكاني الأرعن، الذي يقود الناس باتجاهأوحد ووحيد، ابتداء من أضيق دائرة داخل فلسطين المحتلة وفي محيطها من دول الطوق،مرورا بدوائر نطاقها يتسع تدريجيا مع تمدد رقعة امكانيات وانجازات المشروعالصهيوني وأنظمة الاستبداد، ووصولاً إلى تلك الدوائر الجغرافية القصية في مشارقالأرض ومغاربها، في مشهد القصد منه وضع اليد على مكمن ذلك المشروع اللعين القائمعلى افراغ فلسطين من سكانها الاصليين عموماً، وسكان المخيمات الفلسطينية المنتشرةداخل البلاد المحتلة وفي محيطها الإقليمي على وجه الخصوص.

وما انضمام سكان قطاع غزة إلى ركوب مغامرة قوارب الموتفي عرض البحر الأبيض المتوسط، إلا فصل واحد من فصول هذه التراجيديا السياسيةالممتدة على امتداد القضية الفلسطينية، التي إن كانت حساباتنا فيها تقوم علىالمجموع أو بالجملة، فإن حسابات الكيان الصهيوني فيها تقوم على الفرد أو «المفرق»،كما يقال في لغة السوق، فكل فرد فلسطيني تنجح دوائر الحركة الصهيونية في ابعاده عنبؤرة الصراع العربي الصهيوني ومحيطها، بمثابة عملية اعدام ميدانية أخرى تضاف إلىمسلسل عمليات اعدام متنوعة ومبتكرة، لم تدخر أسلوباً إلا مارسته في هذا الاتجاه أوذاك، بمساعدة حلفائها من العرب والغربيين، فمن بوسعه أن ينسى منطق المفاوضات التيتجريها الدولة العبرية أثناء عمليات تبادل الأسرى الفلسطينيين، التي لا نغالي إنقلنا إن أياً منها لم يخل من حالات إبعاد حتى لو كان إلى قطاع غزة فقط.

وللتذكير فقط، فإن من يعتقد أن القيادات الفلسطينية أوالعربية التي دخلت في مفاوضات مع الكيان العنصري ووقعت معه اتفاقات أطلق عليهازوراً وبهتاناً اتفاقات سلام، كانت هي المبادرة إلى فتح ملف اللاجئين الفلسطينيينفيها، فهو واهم ولا يدرك الحقيقة، فالمبادر في فتح هذا الملف الشائك والحاسم كاندوماً وفي كل الحالات الجانب الاسرائيلي، نزولاً عند نصيحة مفكريه واستراتيجييهالذين يرون، وهم محقون في ذلك، أن القضية الفلسطينية برمتها قائمة على العاملالسكاني وحده دون غيره، وأن عدم اجتراح الحلول المناسبة له يعني استمرار الصراعإلى أجل غير مسمى.

وفي هذا السياق يأتي التدخل السوري في الأردن مطلعسبعينات القرن الماضي وفي لبنان منتصف العقد نفسه الذي أفضى الى خروج المقاومةالفلسطينية، بعد نحو سبع سنوات، إلى أقاصي العالم العربي الإفريقي في شتات من نوعجديد فرضته متطلبات ضرورة الحفاظ على استقلالية الإرادة السياسية الوطنيةالفلسطينية، وفي هذا السياق ايضا تأتي إجراءات السلطات اللبنانية وأنظمتها، التيتغلق جميع الأبواب في وجه اللاجئ الفلسطيني المقيم على أراضيها، كي لا يبقى أمامهإلا باب الهجرة مفتوحاً على المجهول، وعلى توسيع المسافة بين مكان إقامته الجديدوموطنه الأصلي فلسطين.

في السياق عينه أفرغت بغداد لاجئيها الفلسطينيين إثرسيطرة العقلية المذهبية على بلاد ما بين الرافدين، على ضآلة عددهم، وتفريغ مخيماتاللاجئين في سوريا منهم وفي مقدمها مخيم اليرموك، الذي هبط منسوب أعدادالفلسطينيين فيه من نحو مئتين وخمسين ألفاً إلى نحو 15 ألفاً فقط، وبالنسب نفسهامخيمات درعا ونظيراتها المحيطة بالعاصمة دمشق وحمص واللاذقية وحلب وغيرها، مثلماتأتي إجراءات الدول الغربية في التعامل مع حالات اللجوء المزدوج للاجئين الفلسطينيين،الذين تفتح ملفاتهم فيها بشكل فردي وتحت عنوان «بدون» جنسية، حيث يتعين على كلطالب لجوء فلسطيني الى دولة أوروبية، على سبيل المثال، أن يقر بحقيقة عدم انتمائهلفلسطينيته أولاً وقبل الشروع في اجراءات ترسيخه في «الأرض العجوز الموعودة»، منخلال منحه إقامة دائمة ووثيقة سفر جديدة عوضا عن وثيقة السفر التي كانت قد منحته إياهامصر أو سوريا أو العراق أو لبنان، مع فارق وحيد يكمن في وجود إشارة خجولة لانتمائهالوطني في الحالة الأولى، بينما تنعدم تلك الاشارة في الحالة الثانية، ما يشكلسنداً قانونياً يشي بتنازل اللاجئ الفلسطيني عن فلسطينيته، ويوفر وثيقة رسمية علىالأرجح أنها ستشهر في وجهه ووجوه ممثليه السياسيين في الوطن البعيد عندما تحينساعة حسم الأمر. حتى حلم العودة يجبر، في هذه الحالة، على نزع صيغته الجمعية عننفسه ليرتدي عباءة الحل الفردي الصرف، القائم على الحنين إلى وطن ضائع، متخلياً عنأي صيغة قانونية تسمح بتحقيق ذلك الحلم على أرضية الانتماء الفلسطيني، ليختزل كلالحنين الفلسطيني المتراكم في التخطيط لزيارة فلسطين بصورة فردية بجواز سفر فرنسيأو ألماني أو أمريكي، وبذلك يتحول الفلسطيني صاحب الحق في أرض فلسطين الى مجردزائر لها، وتتحول القضية الفلسطينية من قضية وطنية عادلة إلى قضية فردية تجرجروراءها ذيول نوع مشوه من تحقيق حلم لا يسمن ولا يغني من جوع، مع انتهاء مدة تصريحالزيارة الذي تمنحه سلطات الاحتلال وفق مشيئتها وحسب الحالة الفردية التي تعالجها.

قتامة المشهد هذا لا تنم عن نزيف ديموغرافي فحسب، بلإنها تتخطى جميع الأطياف والألوان الوجدانية مخترقة العقل العربي الجمعي، الذي وجدنفسه في غفلة من العقل، أمام حالة من الدفاع المستميت عن جغرافيات ضيقة أشبهبألعاب الصغار، صنعها غيره بجرة قلم داخلاً في متوالية من الاختزالات القيصريةالتي لن تفضي إلا إلى اختزال معنى الوجود نفسه وحبسه في شرنقة فردية مريضة، في هذهالحالة، لأنها تنحي جانباً عناصر القوة الجمعية، سواء على مستوى البلد الواحد أومجموعة بلدان الإقليم، وحتماً إلى مزيد من النكبات على المستويين الفردي والجمعي.

٭ كاتب فلسطيني

صحيفة القدس العربياللندنية

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات