غزة: بيئة طاردة أم حاضنة؟

من أجمل ما توصف به غزة هذا الصغير الجميل، لما منحها اللهمن مناخ جميل ومعتدل، وساحل بحري من أجمل السواحل، ولطيبة أهلها وانفتاحهم على كل الثقافات.تحول هذا الصغير الجميل إلى شكل آخر، بعد تأصيل حالة الانقسام بين حركتي فتح وحماسوسيطرة الأخيرة على غزة عام 2007، وما ترتب على ذلك من هجرة البعض. وما عاشته من حروبثلاث في غضون ست سنوات.
وتاريخياً تمتعت غزة بشخصية وليس بهوية مستقلة ذاتية، بفعلالعامل الجغرافي الذي ما زال يشكل محدداً لكل خياراتها وتوجهاتها وشخصيتها. فاحتضنتبعد حرب 1948 الآلاف من اللاجئين الذين أجبروا على ترك منازلهم بسبب المجازر التي ارتكبتهاالقوات الصهيونية، وقامت فيها أول حكومة عموم فلسطين برئاسة موسى العلمي، وخضعت وحتىعام 1967 للإدارة المصرية في عهد الرئيس عبدالناصر التي من أعظم إنجازاتها الحفاظ علىالهوية الفلسطينية لسكانها، وفتحت لهم جامعاتها فحقق سكان القطاع نسبة عالية من التعليملأنهم يرون فيه مستقبلهم، وحمل سكانه وثيقة سفر اللاجئين الفلسطينيين الذي حافظ علىهذه الهوية، وهي من احتضنت منظمة التحرير، وكان أبناؤها أول من تجندوا في جيش التحريرالفلسطيني.
وشكلت غزة طوال هذه الفترة مركزاً تجارياً مغذياً على مستوىمصر وغيرها، وجاب تجارها كعادتهم العديد من العواصم. وإلى أن قامت حرب 1967 لتحتل”إسرائيل” كل الأراضي الفلسطينية وأراض عربية في سيناء والجولان، وقبل هذهالحرب لا بد من ذكر حرب 56 ومجزرة خان يونس والتضحيات التي قدمها أهلها. وطوال فترةالاحتلال “الإسرائيلي” وحتى الانسحاب الأحادي منها بقيت غزة محتفظة بشخصيتهاالنضالية، ورغم مظاهر التحسن المعيشي إلا أن غزة شهدت أول انتفاضة فلسطينية، ترتب عليهانتائج سياسية كبيرة قادت لعودة السلطة.
ومع عودة السلطة التي جاءت بعد اتفاقات أوسلو وبداية مسارالتسوية والمفاوضات، وعودة الثورة الفلسطينية كلها وعلى رأسها القائد الرئيس عرفات،بدأت غزة مرحلة جديدة من حياتها السياسية، ولتنطلق لتكون نواة الدولة الفلسطينية، وكلهذا ليس منفصلاً عن التطور العام للقضية الفلسطينية، وبدأت ملامح التكامل والاندماجبين غزة والضفة الغربية، بل وبين الداخل الفلسطيني. ولقد اتسمت هذه المرحلة الطويلةنسبياً من 1996 وحتى الآن بمحطات سياسية كبيرة، ومفارقات عديدة، فحتى انسحاب”إسرائيل” الأحادي، والسلطة تدار من غزة، وأقيم أول مطار جوي حضر افتتاحهالرئيس كلينتون، ووضع حجر الأساس لميناء بحري فيها، وكان يفترض بعد إنسحاب “إسرائيل”أن تتحول غزة إلى نموذج حضاري وتنموي، وتكون بحق منطقة جذب لكل الفلسطينيين والمستثمرينفي الداخل والخارج، وهو ما حدث بالفعل، لكن غياب الرؤية، وبدايات الانقسام بين حماسوفتح حالت من دون تحقيق ذلك، لتدخل في مرحلة جديدة بعد فوز حماس بالانتخابات الفلسطينيةالثانية وتوليها السلطة لنشهد مرحلة صراع جديدة بين القوتين الرئيسيتين لتنتهي بسيطرةحماس الكاملة على غزة وإقصاء السلطة.
مرحلة دموية من الصراع ما زالت قائمة لتزرع بذور البيئة النافرةوالطاردة، وترتب على ذلك فرض حصار غاشم وظالم، والحيلولة دون نجاح التجربة الديمقراطيةالفلسطينية، وأسهمت في ذلك العوامل الفلسطينية، لتختنق غزة بالحصار المفروض عليها،ولتبدأ علاقة جديدة بين غزة والسلطة تقوم على الرفض والتنازع والتشكيك في شرعية كلمنهما، إضافة إلى العلاقة مع “إسرائيل” التي تقوم على الحرب، وكانت نتيجتهاثلاثة حروب، وخصوصًا الحرب الأخيرة التي دامت نحو خمسين يوماً دمرت فيها البنية الاقتصاديةوالاجتماعية، وزرعت الخوف والهلع من الموت بسبب حجم التدمير الذي طال كل شيء، وبسببضخامة عدد الشهداء.
كل هذا زاد وفاقم من صعوبة الأوضاع الحياتية، وخنق فرص العمل.وعلى الرغم من الصمود الذي أبدته المقاومة والشعب الفلسطيني، وما تخللها من بارقة أملفي مصالحة بدأت بحكومة التوافق التي شكلت قبل الحرب بقليل، لكن سرعان ما طفت من جديدمظاهر الانقسام والصراع الفلسطيني، وبدأت تمارس ضغوطاً أكبر على غزة، وكل هذا زاد منحرمان بيئة غزة من فرص العمل والحياة، لتزداد عوامل الطرد، خصوصاً لشريحة الشباب الذينبدأوا يفقدون الأمل في الغد، وتخوف الجميع من حرب جديدة مدمرة، فما زال الحصار مفروضاً،والمعابر شبه مغلقة أو محصورة في فئات معينة، ليبدأ البحث عن قنوات سرية وغير شرعيةللهجرة الشبابية التي راح ضحيتها المئات في عرض البحر، والسبب المباشر لا شك هي الحرب،وحالة الحصار المفروضة منذ سنوات، وهجرة رأس المال، وغياب الأمان وفقدان الأمل في مصالحةحقيقية تعيد الوجه الحقيقي لغزة ولكل فلسطين، هذه التخوفات والمعطيات الجديدة حولتغزة إلى بيئة طاردة. هذه هي القضية والتحدي الرئيسي الذي على الجميع التصدي له.
التفكير في كيفية جعل غزة بيئة حاضنة جاذبة لأبنائها في الداخلوالخارج، وكيف نجعلها أنموذجاً حقيقياً للدولة الفلسطينية، يقوم على المصالحة والبناءوالإعمار الحقيقي الذي بدأ الخلاف حوله قبل أن يبدأ، ويبقى السؤال والتحدي: كيف نجعلغزة بيئة حاضنة جاذبة؟
صحيفة الخليج الإماراتية
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

مسؤولون بالبرلمان الأوروبي يطالبون إسرائيل بإنهاء حصار غزة فورا
المركز الفلسطيني للإعلام طالب قادة العديد من الجماعات السياسية في البرلمان الأوروبي اليوم السبت، إسرائيل بالاستئناف الفوري لإدخال المساعدات...

جراء التجويع والحصار .. موت صامت يأكل كبار السن في غزة
المركز الفلسطيني للإعلام قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إنّه إلى جانب أعداد الشهداء التي لا تتوقف جرّاء القصف الإسرائيلي المتواصل، فإنّ موتًا...

إصابات واعتقالات بمواجهات مع الاحتلال في رام الله
رام الله – المركز الفلسطيني للإعلام أُصيب عدد من الشبان واعتُقل آخرون خلال مواجهات اندلعت مع قوات الاحتلال الإسرائيلي في عدة بلدات بمحافظة رام الله...

القسام ينشر مقطع فيديو لأسيرين إسرائيليين أحدهما حاول الانتحار
المركز الفلسطيني للإعلام نشرت كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، السبت، مقطع فيديو لأسيرين إسرائيليين ظهر أحدهما بحالة صعبة وممددا على الفراش....

جرائم الإبادة تلاحق السياح الإسرائيليين في اليابان
المركز الفلسطيني للإعلام في خطوة احتجاجية غير مسبوقة، فرضت شركة تشغيل فنادق في مدينة كيوتو اليابانية على الزبائن الإسرائيليين توقيع تعهد بعدم التورط...

سلطة المياه: 85 % من منشآت المياه والصرف الصحي بغزة تعرضت لأضرار جسيمة
المركز الفلسطيني للإعلام حذرت سلطة المياه الفلسطينية من كارثة إنسانية وشيكة تهدد أكثر من 2.3 مليون مواطن في قطاع غزة، نتيجة انهيار شبه الكامل في...

تقرير: إسرائيل تقتل مرضى السرطان انتظارًا وتضعهم في أتون جريمة الإبادة الجماعية
المركز الفلسطيني للإعلام حذر المركز الفلسطيني لحقوق الانسان، من إصرار دولة الاحتلال الاسرائيلي على الاستمرار في حرمان مرضى الأورام السرطانية من...