السبت 10/مايو/2025

خمسون ليلة وليلة

خمسون ليلة وليلة

هناكمقولات شاعت في الثقافة الأوروبية، منها ما قاله فريدريك نيتشه وهو “ما لايقتلني يقويني”، ومنها أيضاً عبارة أرنست همنغواي الشهيرة التي لخص بهاروايته “العجوز والبحر” وهي أن الإنسان يمكن أن يدمّر ويسحق لكنه لايهزم، لكن تلك المقولات بقيت حكراً على ثقافة شعوب كانت تستكمل هويتها القومية، ثمأصبحت محظورة على شعوب أخرى، وقد يكون تاريخ الشعب الفلسطيني الحديث كله مقاومةمستمرة ضد محاولات الإبادة وتهويد الهوية.

ويذكرصحفي فرنسي عاش مرحلة اجتياح لبنان عام 1982 أنه شاهد أباً فقد ابنه الوحيد في تلكالحرب، وحين مدّ يديه وأصابعه التي تقطر دماً ليغمض عيني ابنه، قال جملة لم يفهمهاالصحفي، وحين طلب من أحد الحضور أن يترجمها وكان يعرف الفرنسية قال إن الأب همس فيأذن ابنه: مع السلامة: “منذ قرن ونحن ندفع”.

وأهلالقطاع الذين عاشوا خمسين ليلة بلا كهرباء ودواء وماء بينهم شيوخ ونساء وأطفال لميسلموا من القصف.

وأحصىالناس في الظلام الذي يضاء بالقنابل فقط عدد موتاهم بالدقائق، وليس بالساعات فقط.

لكنالليلة الأولى بعد الخمسين، وبعد إعلان وقف إطلاق النار أضاءتها أشياء أخرى غيرالقنابل، هي وميض عيون الأطفال وما تبقى من شموع تحرق الأصابع، فمن لم يستطع النوموصام عنه مثلما صام عن الطعام والشراب يستطيع هذه الليلة أن ينام، هذا إذا لم تكنالكوابيس له بالمرصاد لتقض مضجعه، فما من حي أخطأه رصاص العدوان أو بقي سقف بيتهفي مكانه إلا ويحمل في ذاكرته مشاهد ستبقى حتى آخر العمر.

فيالليلة الأولى بعد الخمسين غمر ليل القطاع خليط الانفعالات والعواطف التي يتعذر فكالاشتباكات بينها، فالناجي من القصف دفن أخاً أو أباً أو أماً، وهناك من دفنالعائلة كلها، ولم يكن لديه فائض من الوقت حتى للبكاء.

إنوقف إطلاق النار يعقبه على الفور إطلاق آخر داخل النفس وفي عمق القلب المكلوم،فغزة تبدو بما تيسر من إضاءة الكاميرات كما لو أنها شهدت زلزالاً حوّل معظمأحيائها إلى أطلال، وثمة أبراج وبنايات تحولت إلى قبور جماعية، لهذا فإن إعلانالقطاع منطقة منكوبة يبدو ملتبساً لأن النكبة كارثة من الطبيعة، وما حدث هو منصميم التاريخ، وبفعل فاعل فقد الكوابح كلها، ولو كان لديه رشد أو صواب منذ البدءلقلنا إنه فقده، لكن بصمات القاتل التي لم تمسحها عوامل التعرية، سواء فيالجغرافيا أو الأخلاق على جدران دير ياسين وأشجار كفر قاسم، هي ذاتها التي لن تفلحجرافات الكون كله في محوها عن أطلال القطاع الحزين.

صحيفةالخليج الإماراتية

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات