السبت 10/مايو/2025

القاسم يشاطر غزة صمودها

القاسم يشاطر غزة صمودها

لا غرابة أن يموت الشاعر الكبير سميح القاسم في هذهالأيام الحزينة الكئيبة، وأن يجد في الموت قصيدته الأخيرة، وربما شفاءه الأخير، منعذاب رافقه على مدى سبعة عقود منذ طفولته إلى كهولته. والمحزن أن يكون آخر مشهدرأته عيناه، أو رآه قلبه، دخان يتصاعد من قلب غزة، كان دخان الخراب الناتج منانهيار المنازل والمؤسسات التي بنيت بدماء أبناء غزة وعرقهم.

كما أن آخر ما تابعه بحزن عميق تعدد “الهدنات”واختراقها من قبل العدو بمبررات واهية أو بلا مبررات. ولعل الذين كانوا إلى جوارسميح القاسم قبل أن يغلق عينيه إلى الأبد، قد استمعوا إليه وهو يردد لنفسه:”يكفي ما رأيت!!”. ولم يكن يظن – مجرد ظن – أن أمته العربية ستقف من هذاالعدوان الشرس والأسوأ مكتوفة الأيدي، ولا أن المجتمع الدولي سيتجاهل ما يحدث،وينشغل بموضوع “أوكرانيا” و”داعش”.

ولعل أخطر ما آلمه، وهو ما آلم أصحاب الضمائر النقية، أنالدعوات التي ارتفعت من الوطن العربي ومن العالم كانت كلّها تدور حول شجب العدوانوالدعوة إلى التهدئة التي تحقق للعدو ما يريده من متابعة القصف، واستمرار الحصار.

مات سميح القاسم ابن الخامسة والسبعين، وهو يمسح آخرالدموع التي تساقطت من عينيه بمناديل الكلمات التي رافقته منذ صباه ومطالع شبابه،فقد تملّكه الشعر منذ وقت مبكر، وها هو قد رافقه إلى اللحظات الأخيرة من عمرهالحافل بالإبداع والدفاع عن القضية، قضية بلاده التي كانت محور كل ما كتبه من شعرباستثناءات ذاتية لا تكاد تذكر. وقد لفتت بداياته انتباه الشعراء، ومحبي الشعر فيالأقطار العربية، من خلال ما كان يتسلل من قصائد شعراء المقاومة المقيمين في الأرضالمحتلة، إذ كان هو ومحمود درويش وتوفيق زيّاد من أشهر تلك الأسماء. وقد تعرفتإليه شاعراً في أواخر الستينات عندما كنت طالباً في جامعة القاهرة. وعندما انتقلالشاعر الكبير محمود درويش من الأرض المحتلة، إلى بيروت كتبت قصيدة أهديتها إلىسميح أطالبه فيها بألا يبرح الأرض، وأن يظل مكانه حتى لا يبتعد الشعر عن تجسيد نبضالداخل بكل توهجه وسخونته.

وقد فوجئت به يقوم بنشر قصيدتي المهداة إليه مع مختاراتمن قصائدي في مجموعة شعرية طبعها ونشرها في الأرض المحتلة، وبعث لي بنسخة منها عنطريق سفير فلسطين في صنعاء. كما تحدث معي هاتفياً من القاهرة ومن لندن أكثر منمرة، وكان يحلم بزيارة صنعاء والتعرف إلى موطن أجداده القدماء، على حد تعبيره، لكنأمنية سميح لم تتحقق، فقد كان يحمل جواز سفر (إسرائيلياً) شأن كل العرب المقيمينفي الأرض المحتلة. وربما كان التخلي عن هذا الجواز يعني التخلي عن الإقامة وعنرائحة الوطن وترابه، وهو ما حرص عليه طوال حياته، ولهذا السبب فقد اقتصرت زياراتهخارج الأرض المحتلة على البلدان التي تعترف بالكيان الصهيوني وبجوازات السفرالصادرة عن هذا الكيان.

لن أتحدث عن سميح القاسم شاعراً مقاوماً وشاعراً مبدعاً،فلذلك مجال آخر، لكني مشدود إلى موضوع التزامن بين رحيل هذا الشاعر الكبير، وماتتعرض له غزة من حرب إبادة وخراب، وما يمكن أن يكون قد تركه هذا الواقع الجارحوالفاجع في نفس شاعر على درجة عاليه من الحساسية والشعور المرهف.

وربما أحس في لحظة يأس معتمة بعدم جدوى ما نهرقه من حبر،وما نبدده من كلمات لا تستطيع أن تسكت صوت الجوع في أحشاء طفل غزاوي، أو تمنع عنهرصاصة حاقدة، أو ترد عن المنزل الذي يسكن فيه قذيفة غادرة. من حقه أن ييأس من جدوىالشعر والنثر، ومن حقنا أن نشاركه في يأسه المبرر وإحباطه المميت، وإن كان الضوءالطالع من آخر النفق، حيث تصمد المقاومة، يصنع مساحة واسعة من الأمل العظيم، ويجعلالفعل كما هو في الواقع يتقدم الكلمة وينتصر لها، وللإنسان من أعداء الحياة،وأعداء الشعوب، ولنا أن نتيقن أن وراء ليل غزة الذي هو جزء من الليل العربي، ألفشمس وشمس.

صحيفةالخليج الإماراتية

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات