العرب وحروب غزّة: عجز عن التدخّل… وعن الصمت!

دم الأطفال، أجسادهم وأشلاؤهم المكفّنة والمكدّسة فيثلاجات بدائية بلا كهرباء. عائلات تحوّلت بأكملها جثثاً هامدة. أحياء وأبنية سوّيتبالأرض. مدارس تُخضَع للقصف المستَهدَف تجريباً لأسلحة جديدة ومحظورة… لم تخرجحرب غزّة عمّا كان متوقعاً لها. مقتلة، مجرّد مقتلة، موسم لمجرمي الحربالاسرائيليين. فتصفية الأطفال كانت دائماً «استراتيجية» عندهم. يظنّون أنها تردعمن يبقون أحياء، وتخفض عدد المعادين مستقبلاً. لم تستقم هذه المعادلة يوماً، ولافي أي صراع، بين ظلم خالص وإرادة تحرّر.
هذا الكمّ من الجرائم تحت أنظار الكاميرات صدم ملايينحول العالم، أثار السخط والغضب، واستذرف الدموع أحياناً كثيرة، فهذا يحدث كما لوأن الوحوش العسكرية نالت ترخيصاً للصيد في حقول القتل. كانت ردود فعل بشرية حيالبشر يُنذرون بمغادرة مساكنهم ويُطاردون حيث يلجأُون ويُقتلون كذبائح معدّةللاستهلاك السياسي ومساومات الهدنات الهشّة.
للأسف، لا يبدو ان هذا الكمّ من الخزي الانساني استدرَّولو مجرد عطف لدى بعض – ولو بقي محدوداً – من الاعلام العربي، تحديداً في مصر، اذراحت أفاعيه تفحّ حقداً وعيباً. شكّل بعض المذيعين والمذيعات عينة صغيرة لكنهمتحوّلوا «عيّنة عار» غير مسبوقة. لم يعبّر هؤلاء عن موقف فكري أو سياسي أو ديني أوايديولوجي، فهذا حقّهم، بل عبّروا بإصرار عن انحطاط أخلاقي وإسفاف معنوي لايشرّفان أي اعلام. لا يمكن أن يقنعوا أحداً بأن الشعب المصري يريدهم أن يبيعوه«تعظيم سلام للاسرائيلي»، أو أنه يرحب بمناشدتهم اسرائيل ضرب الغزّيين بالنعال، أوأنه يستعذب سيول الشتائم التي آذروا بها آلاف الصواريخ الاسرائيلية على غزة، أوأنه يجاريهم أخيراً في مبالغاتهم باعتبار هذه الحرب استكمالاً لـ «حربهم» على «جماعةالاخوان» وبالتالي على حركة «حماس». كان أضعف الايمان أن يصمتوا، أن يخرسوابالأحرى، لا أن يتفوّهوا بهذه التفاهات التي تشوّه الحقائق، فلا أحد طلب منهم أنيخوضوا حرب الشعب الفلسطيني من مواقعهم الاعلامية.
لا، ليس الشعب المصري من يهبط الى مثل هذا المستوى حتىلو لم يشعر بأنه مضطر للتفاعل – «قومياً»! – مع حرب لم يردها جيشه ولم يكن لحكومتهرأي فيها. نعم، لدى الشعب المصري (والسوري والعراقي واللبناني واليمني والليبيوالـ…) من الانشغالات الداخلية المصيرية ما يحدّ من اندفاعه العاطفي تجاه غزّةوضحاياها. هذه شعوب أمضت أعواماً عدّة متوالية في رؤية الكثير من الدم والويلاتوالاغتصابات والانتهاكات والانقسامات، ومن الكفر والتكفير والإثم والتأثيموالارهاب والترهيب. هذه شعوب ترى مأساة فلسطين تتكرر في كل مدينة من مدنها، وترىبلدانها تتفكّك ومجتمعاتها تتمزّق ووجدانها يتبدّل، ولا شك في أن غزّة استشعرتعجزها حيال ما شهدته من محن الآخرين، مثلما يستشعر هؤلاء عجزهم حيال محنتها، فكلنظام مستبد قاتل أصبح في أنظار هذه الشعوب «اسرائيل»، نسخةً طبق الأصل عنها.
طبعاً، المسألة ليست في إسفاف حفنة من الاعلاميين أوالمغرّدين والفايسبوكيين فحسب، فهؤلاء من اسقاطات بوصلة عربية خربة لم تعد ترشدإلا الى التيه والضياع. لم تأتهم الأفكار من فراغ بل من تكاذبات متشعّبة ومتقاطعة،عربية – عربية وعربية – فلسطينية وفلسطينية – فلسطينية وعربية – اميركية… ولايعلم أحد متى تتوقف أو يُوضع لها حدّ. لكن أخطر ما انتاب التفاعل العربي مع حربغزّة كان استحضار الصراعات المنبثقة من تحوّلات «الربيع العربي» بما فيها الخلافالمتعاظم مع تيار الاسلام السياسي، وإضافتها الى صراعات «الممانعة» و «الاعتدال»بما فيها من انتهازية ايرانية فاقعة، ثم وضعها في سياق هذه الحرب، وأخيراً الوصولالى استخلاص مفاده أن «حماس» يجب أن تُهزم، وأنه اذا ضربت “إسرائيل”«حماس» و «الجهاد» وغيرهما، فإنها تسدي خدمة للداعين الى «دولة المواطنة» أو«الدولة المدنية»، بل إنها ستثأر بشكل أو بآخر للمتضررين من صعود التيار الديني أوالمناوئين لتعاظم النفوذ الايراني. لكن هذا الانزلاق يتناسى حقيقتين: الأولى أنفلسطين هي قضية شعب مثلما هي مصر وسورية والعراق وغيرها. أما الثانية والأهم أن “إسرائيل”طرف لا يُرجى منه أي أمل، فإرهابها ووحشيتها وجرائمها سمّمت المنطقة العربيةوسرطنتها ومثّلت نموذجاً للأنظمة المستبدة، ثم انها غير معنية بحل مشاكل عربيةداخلية بل بمفاقمتها واستغلالها، فهي استغلّت «حماس» الإسلامية لإدامة الانقسامالفلسطيني وتعميقه كما تستغلّ النظام السوري «العلماني» و«الممانع» وتدعم بقاءهطالما أنه ينوب عنها بتدمير منهجي يعيد سورية الى عصور غابرة.
عودة الى التكاذبات. ذاك أن حرب غزّة سلّطت مزيداً منالأضواء على سرّين شائعين: أولهما مرتبط بـ «اتفاق أوسلو» وما بعده، إذ لم تتكشّفعناصره لتوضح مواقف «النظام العرب الرسمي» من القضية الفلسطينية. والآخر يتعلّقبسلسلة وعود وتعهدات أميركية (غير موّثقة؟) للعرب باعتبار السلام «هدفاًاستراتيجياً أميركياً» والسعي إلى تحقيقه ولاحقاً بالعمل على تصويبه بعد انتكاساتمتتالية أدّت أخيراً إلى انهياره ودفنه، وتبيّن أن هذه التعهدات كانت واهية بينماحصلت “إسرائيل” في المقابل على تفاهمات مع واشنطن مكتوبة وموثّقةوموقّعة تتحكّم بمفاهيم السلام والمفاوضات والتنازلات المطلوبة من العربوالفلسطينيين و«اللاتنازلات» الاسرائيلية.
يمكن اختصار السر الشائع الأول بعبارة مباشرة مفهومةوغير تكاذبية هي أن تبنّي «النظام العربي الرسمي» للقضية الفلسطينية صار مجردالتزام سياسي معنوي، وإلى حدٍّ ما اخلاقي، فيما أُخضعت الالتزامات المالية لقيودوضغوط، وأحياناً للمساءلة والنهي القاطع عنها. أما السر الشائع الآخر فعنى أنالعرب دخلوا «عملية سلام» من دون خطة، معتمدين فقط على الاميركيين الذين منحوهمصفة مراقب لمجريات العملية غير مخوّل التدخل فيها، لذا راح دورهم واهتمامهميتضاءلان تدريجاً برغبة منهم أو بسبب انشغالاتهم الداخلية أو خصوصاً بدفع منالتقنين الأميركي، إلا في المنعطفات التي ترى واشنطن أن يتدخلوا لتسهيلها وفيالنطاق الذي تحدّده لهم. ومع التوصّل الى «إتفاق أوسلو» بمفاوضات سريّة وُضع العربأمام واقع جديد يدعوهم الى الابتعاد أكثر فأكثر، لكن وقائع الفشل عادت تستدعيهمبعدما أصبحوا عاجزين عن التدخل وبعد فشل رهانهم على الولايات المتحدة التي أصبحتتطلب منهم تنازلات لتغطية عجزها عن الضغط على “إسرائيل”. واستخدمت “إسرائيل”ميزان القوى وثغرات «أوسلو» لتغيير مفاهيم «عملية السلام» (بمباركة أميركية)وإخضاع تطبيق الاتفاق لاعتباراتها الخاصة بالأمن والتوسع بالاستيطان والتحكّم بكلتفاصيل حياة الشعب الفلسطيني.
فتح الانكفاء العربي وفشل الاسرائيليين (والأميركيين) فيالتوصل إلى سلام مع الفلسطينيين ومع سورية، ثغرة واسعة لدخول إيران على الخطوإحياء خيار المقاومة المسلّحة من خلال «حماس» والفصائل الإسلامية. وكلما راكم الإسرائيليونوالاميركيون الأخطاء (قتل ياسر عرفات، تهميش سلطة محمود عباس، قطع المساعدات،زيادة الاستيطان، تجميد المفاوضات…)، تعزز منطق المقاومة مقابل خيار التفاوضالذي فقد كل منطق، وكلما تعزز أيضاً دور ايران ونفوذها على قراري الحربو«التهدئة». ومع الوقت تحوّل هذا الدور من كونه تدخلاً إيرانياً غير مقبول الىكونه وضعاً تتعايش “إسرائيل” معه ذريعة جاهزة ومرغوباً فيها تمكّنها منتعميق الهوّة التي سقطت فيها ما تسمّى «عملية السلام».
في كل حروب غزّة وجد العرب المنكفئون أنفسهم مرتبكين بلاخيارات، فهي تعيدهم الى حقيقة لا يريدونها مكشوفة مفضوحة، الى هزيمتهم الفلسطينية،قبل أن تتوالى الهزائم الأخرى التي تتفجّر وقائعها حالياً في أكثر من بلد. إنهميواصلون الابتعاد عن قضية فلسطين وشعبها ولا يجرؤون على الجهر بأنهم أضاعواالبوصلة والوجهة، يستنكرون انتهازية إيران ولا يريدون أن يكونوا بديلاً منها،يلومون الشعب الفلسطيني أينما كان، في الضفة أو القطاع أو الشتات، إذ يرفض السكوتوالاستسلام، ولا يضعون أمامه أي خيار آخر. وفي غمرة تناقضاتهم هذه يصعب عليهم قولالحق لكنهم ينسون أن ثمة فضيلة في الصمت.
* كاتب وصحافي لبناني
صحيفة الحياة اللندنية
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

المبادر المتخابر في قبضة أمن المقاومة والحارس تكشف تفاصيل
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام كشفت مصادر أمنية اعترافات عميل تخابر مع الاحتلال الإسرائيلي تحت غطاء "مبادر مجتمعي"، لجمع معلومات حول المقاومة...

6 شهداء وعشرات الجرحى والمفقودين بقصف محيط المستشفى الأوروبي بخانيونس
غزة- المركز الفلسطيني للإعلام ارتقى 6 شهداء على الأقل، وأصيب عدد كبير بجراح مختلفة، فيما فُقد عدد من المواطنين تحت الركام، إثر شن طائرات الاحتلال...

حماس: قرار الاحتلال بشأن أراضي الضفة خطوة خطيرة ضمن مشروع التهجير
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام اعتبرت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، إنّ قرار الاحتلال الإسرائيلي إعادة تفعيل ما يُسمّى “عملية تسجيل ملكية الأراضي...

علماء فلسطين: محاولة ذبح قربان في الأقصى انتهاك خطير لقدسية المسجد
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام اعتبرت "هيئة علماء فلسطين"، محاولة مستوطنين إسرائيليين، أمس الاثنين، "ذبح قربان" في المسجد الأقصى بمدينة القدس...

حماس: إعدام السلطة لمسن فلسطيني انحدار خطير وتماه مع الاحتلال
جنين – المركز الفلسطيني للإعلام أدانت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، الجريمة التي ارتكبتها أجهزة أمن السلطة في مدينة جنين، والتي أسفرت عن استشهاد...

تعزيزًا للاستيطان.. قانون إسرائيلي يتيح شراء أراضٍ بالضفة
القدس المحتلة - المركز الفلسطيني للإعلام تناقش سلطات الاحتلال الإسرائيلي في "الكنيست"، اليوم الثلاثاء، مشروع قانون يهدف إلى السماح للمستوطنين بشراء...

أطباء بلا حدود: إسرائيل تحول غزة مقبرة للفلسطينيين ومن يحاول مساعدتهم
المركز الفلسطيني للإعلام حذّرت منظمة أطباء بلا حدود من تحوّل قطاع غزة إلى مقبرة جماعية للفلسطينيين ولمن يحاول تقديم المساعدة لهم. وقالت المنظمة في...