غزة.. نصر استثنائي وصمود أسطوري

منالطبيعي أن يكون النصر الاستثنائي نتيجة حتمية للصمود الأسطوري بيد أن حرب غزةالراهنة أثبتت أن العكس أيضاً صحيح، فقد أدى الانتصار الاستثنائي المفاجئ الذيحققته كتائب القسام وأخواتها وأبناؤها إلى الصمود ذي المعنى أي الصمود الذي يساعدعلى استكمال النصر وتتويجه.
أماكيف حدث الصمود وكيف حدث النصر فهذه ملحمة طويلة وعميقة لا يمكن أبداً اختصارها فيمقال ولا في كتاب لأنها ملحمة شعب، لكن هناك عوامل حاسمة عجلت بهذا النصر الطبيعيالذي لابد منه.
أولهذه العوامل هي مواجهة الحقيقة المرة، فقد عاش شعب فلسطين ثلثي قرن حتى الآن يثقبإخوانه العرب دون جدوى، كان هؤلاء في مجموعهم يفكرون في أزماتهم قبل أن يفكروا فيالحالة الراهنة حتى لو كانوا مسؤولين عنها على نحو مسؤولية عبد الناصر المباشرة عن1967 وهزيمتها المروعة التي سنظل ندفع ثمنها سنوات طويلة.
وقدأوجد هؤلاء العرب لأنفسهم عذرين قبيحين كانوا يعودون من آن لآخر للعزف عليهما بكلقوة.
-كان العذر الأول أن الفلسطينيين هم الذين باعوا أرضهم، وكان من السهل على أي إنسانيتمتع بأدنى درجات الذكاء والمنطق أن يسألهم وماذا عن الأغلبية الساحقة التي لمتبع أرضها حتى الآن رغم احتلال هذه الأرض؟ ومن حسن حظ الفلسطينيين أن الله سبحانهوتعالى أنصفهم، وأصبح الإسرائيليون الآن يبيعون مغتصباتهم التي سموها ممتلكاتهم منأرض فلسطين المحتلة.
-وكان العذر الثاني الذي كان الضباط الأحرار يرددونه لجنودهم وضباطهم في محيط ضيقهو اكتشافهم أن نسبة الخيانة عالية بين الفلسطينيين، وقد أثبتت الأيام مدى التجنيفي هذا الحكم السخيف، كما أثبت عكسه تماماً على أرض الواقع، وثبت للعالم أجمع أنالخيانة وهي خطيئة إنسانية واردة أكثر تحققاً في قيادات جيوش أخرى غير الجيوشالفلسطينية الحقيقية.
ولعلذلك هو ما انتبهت إليه الجيوش الفلسطينية الصامدة المنتصرة وقيادتها السياسيةوبدأت حسم أمرها تجاه هذه المواقف الملتبسة منذ عام كامل كان كافياً لأن تتوجهالبوصلة الفلسطينية الاتجاه الصحيح في الاعتزاز والاعتماد على قدرتها الذاتيةوحدها، وبعد أن كانت القيادة الفلسطينية تتلطف فتترك مقود السيارة للعرب (أياًكانوا) فإنها في هذه المرة تولت القيادة بنفسها عسكرياً وإستراتيجياً وسياسياًوعملياتياً، وسرعان ما اكتشفت أن النصر قريب وأن ابتعاده لم يكن بسببها، وإنما كانبسبب رغبة من أمسكوا بمقود السيارة في المرور على مصالحهم أولاً.
والحقالذي لا مراء فيه أن إدراك هذه الحقيقة كان أمراً غير متخيل بل كان من رابعالمستحيلات على شعب مظلوم مضطهد متآمر عليه، وكان العطف المعنوي الذي يترافق فيبعض الأحيان مع دعم مادي كفيلاً بأن يصرف الفلسطينيين عن إدراك حقيقة تآمر قوى عربيةكبيرة عليهم وعلى قضيتهم، ولم يكن كثير من الفلسطينيين ليصدقوا أن بقاء بعضالأنظمة الراهنة كان مرتبطاً بخطة وتوافقات دولية اشترطت على هذه النظم أن تضمنالحفاظ على “إسرائيل” وعلى أمن “إسرائيل” بل على هواء “إسرائيل”،وإلا فقدت مقومات وجودها!
وكانتالمعرفة بمثل هذه التعهدات العربية تنمو مع الزمن من اتفاقيات سرية إلى اتفاقياتمسربة أو متسربة إلى لقاءات سرية إلى تخاذل إلى تواطؤ إلى تآمر سري إلى تآمر علني،فلما حدث التآمر العلني وأسفر عن وجهه القبيح، أدركت -وأعلنت ذلك بكل وضوح منذعام- أن القضية الفلسطينية دخلت مرحلة النصر الذي استكملت أسبابه بمعرفة الحقيقةوإدراك أطراف اللعبة.
وهكذاتخلصت القيادة الفلسطينية الحقيقية من أعباء متعددة منها عبء القيادة الرسمية وعبءالقيادة التاريخية وعبء القيادة المرحب بها عند الأعداء، وعادت الأمور إلى نصابهاالذي يعرفه مجرى التاريخ الإنساني حيث تتولى أمر القيادة قوى تعبر عن مناطق القوةالحقيقية، ومناطق التأثير الفاعل، وحيث تكون القيادة تعبيراً عن حركة الشعب، وحيثيتحقق الإيمان الكفيل بتحقيق الهدف بعد سعي جاد ومبدع من أجله.
وكانتهذه هي الحقيقة الثابتة في صناعة هذا النصر الذي تحقق بإبداع غير تقليدي وغيرمحسوب حسابه عند الطرف الآخر وحلفاء الطرف الآخر، وتحقق بتخطيط غير مخترق بطابوررابع أو خامس أو ثالث أو ثان، فقد كان طابور النصر واحداً ووحيداً، ولم يكن عندطابور النصر استعداد للاستعراض لأنه كان مشغولاً بالاستعداد، ولم يكن عنده استعدادللتباهي لأنه كان معنياً بالتماهي مع الحقيقة، ولم تكن عنده رغبة في إثبات الذاتلأنه كان يؤمن بحتمية التضحية بالذات.
وهكذاعادت إلى أرض الواقع مناهج كانت غائبة أو مغيبة من قبيل قول أبي بكر الصديق: أحرصعلى الموت توهب لك الحياة، ومن قبيل أن الاستشهاد في سبيل الله هو أغلى الأماني،وفي الوقت ذاته تراجعت مفاهيم أثبتت فشلها من قبيل تجليات العروبة في القوميةوالطبقية والاشتراكية.. إلخ، ورفرف علم الإيمان في القلوب قبل أن يرفرف علىالسواري.
وقدمثلت التجارب الذاتية المريرة جوهر العامل الثالث في تفهم القيادة السياسيةالفلسطينية لحدود ما هو ممكن وما هو مستحيل، ولحدود التعامل مع القوى التي تظهررغبتها في الوساطة أو التدخل الإنساني، بينما هي تعطي غطاء للإجرام الإسرائيليمنقطع النظير، وسرعان ما أثبتت الأحداث صواب استنتاجات الفلسطينيين في خبراتهمالتاريخية، فقد تراجع وزير الخارجية الأميركي في اليوم الثالث عما كان عرضه فياليوم الثاني ثم عاد إليه تحت ضغط الظروف في الأسبوع الثاني.. وهكذا كانت المواقفالأميركية تتوالى معبرة بصفاقة عن العقلية المتذبذبة التي لا تستند إلى مبدأ أوإنسانية وإنما تقوم على أساس ذرائعي يستهدف تحقيق أقصى ما هو ممكن لقوة “إسرائيل”الغاشمة التي لم تكف عن التدمير والقتل والاستعراض الوحشي دون أدنى خوف من حسابدولي أو إقليمي.
بلعلى العكس فإن هذه القوة الإسرائيلية المتغطرسة أعلنت بكل فجاجة ووقاحة أنها تلقتتمويلاً كاملاً لعمليات استئصال حماس وقواها العسكرية، وأن هذا التمويل قابلللتجديد إلى أن يتم هذا الاستئصال أو الإبادة، وهي حالة شيطانية لم يسجلها التاريخحتى الآن، ولا يتصور صدورها إلا عن مراهقين لا يدركون حدود التصور الإنسانيوإمكانات البشرية في تحقيق هذا التصور على أرض الواقع.
وأيايكن الأمر فقد طرحت هذه الحرب الدائرة على أرض الواقع كل الإشكاليات التاريخيةللفحص والتمحيص، ولم يعد هناك أحد فوق النقد ولا فوق التقييم، ولم يعد هناك مجالللتفسير ولا للتأويل الذي يلوي عنق الحقيقة من أجل الحفاظ على صور كاذبة لزعاماتآذت وطنها عن قصد أو عن جهل.
كمااتضحت كذلك وبكل عمق حقيقة القوى المعنوية الكامنة في الشعوب وفي الجيوش على حدسواء، وظهر الفارق الجلي بين الجيوش البرجوازية والجيوش الحقيقية، وبين القياداتالعسكرية والقيادات الإدارية، وبين أداء المقاتل وأداء الموظف، وبين منطق الزعيمومنطق العميل.
وأخيراًوليس آخراً فقد قاد الصمود الأسطوري إلى نصر استثنائي كما قاد النصر الاستثنائيإلى صمود أسطوري، ولا تزال الخطوتان تؤديان إلى بعضهما بتعاقب بديع يرفع رايةالإيمان والوطنية، بعد أن أسقط رايات العمالة والتواطؤ والتخاذل والتبريرالابتزازي، وهي رايات ارتفعت على السواري العالية طيلة فترات طويلة.
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

الأورومتوسطي: إسرائيل تمارس حرب تجويع شرسة في قطاع غزة
غزة- المركز الفلسطيني للإعلام أكد المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، أن الهجوم الإسرائيلي المتواصل والحصار الخانق والنقص الحاد في الإمدادات...

550 مسؤولا أمنيا إسرائيليا سابقا يطالبون ترامب بوقف الحرب بغزة
القدس المحتلة – المركز الفلسطيني للإعلام طالب مئات المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين السابقين الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالعمل على وقف الحرب في...

حماس تدعو للنفير لحماية الأقصى بعد محاولة ذبح القرابين
القدس المحتلة – حركة حماس قالت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، إن محاولة المستوطنين ذبح قربان في المسجد الأقصى يعد تصعيداً خطيراً يستدعي النفير...

مؤسسات الأسرى: تصعيد ممنهج وجرائم مركّبة بحق الأسرى خلال نيسان الماضي
رام الله - المركز الفلسطيني للإعلام واصلت سلطات الاحتلال الإسرائيلي خلال شهر نيسان/ إبريل 2025 تنفيذ حملات اعتقال ممنهجة في محافظات الضفة الغربية،...

إضراب جماعي عن الطعام في جامعة بيرزيت إسنادًا لغزة
رام الله- المركز الفلسطيني للإعلام أضرب طلاب ومحاضرون وموظفون في جامعة بيرزيت، اليوم الاثنين، عن الطعام ليومٍ واحد، في خطوة رمزية تضامنية مع سكان...

القسام تفرج عن الجندي مزدوج الجنسية عيدان ألكساندر
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أفرجت كتائب الشهيد عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، عند الساعة 6:30 من مساء اليوم...

خطيب الأقصى: إدخال القرابين يجب التصدي له بكل قوة
القدس – المركز الفلسطيني للإعلام استنكر خطيب المسجد الأقصى الشيخ عكرمة صبري، محاولة يهود متطرفين إدخال قرابين إلى ساحات المسجد الأقصى، معتبراً أنه...