غزة وتحولات التيار الإسلامي وتعبيراته المختلفة

برز ثمة إجماع بين الأكاديميين والباحثين في شؤونالإسلام في 2011 حول فرض حركة الثورة العربية تفرض لتغيير جوهري في موقع ومصيرالتيار الإسلامي السياسي. لعب الشارع الإسلامي وقواه السياسية دوراً رئيساً فيالحراك الشعبي الكبير، الذي اجتاح المجال العربي، دولة بعد أخرى، منادياً بالحريةوالديمقراطية والحكم العادل.
وبالرغم من أن الشعوب اضطرت إلى حمل السلاح في ليبياوسورية والعراق، فقد كانت رياح الثورة العربية في مجملها سلمية، ترتكز إلى قوةالشعب وإرادة التغيير. وبالرغم من أن عدداً قليلاً من دارسي الإسلام العرب، أصحابالصلات الوثيقة بالنظام العربي القديم، شككت في حركة الثورة وأهدافها؛ وسرعان ماانقلبت عليها بصورة سافرة عندما رأت أن حركة الثورة فتحت الطريق أمام صعود سريعللقوى الإسلامية الإصلاحية والديمقراطية، كان من الواضح أن النموذج الذي سيطر علىدراسات الإسلام والشرق الأوسط خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ينهارويسقط أمام أعين صانعيه.
منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، نشرت آلافالمقالات والأوراق البحثية والكتب، وعقدت مئات المؤتمرات والندوات، التي انصباهتمامها الغالب على تنظيم القاعدة، الجماعات السلفية الجهادية، والتنظيماتالإسلامية المسلحة. لم تكن المشكلة في حجم الأخطاء التي احتوتها هذه الدراسات، ولافي انحراف بعضها عن تقاليد البحث الأكاديمي المتعارف عليها. كانت المشكلة في أصلالنموذج الذي سارعت لإقامته، والذي اتسق، بقصد أو بغير قصد، مع سردية الحرب علىالإرهاب التي افتتحت القرن الجديد، وأطلقت سلسلة من الحروب والاحتلالات والتجاوزاتالواسعة النطاق لحقوق الإنسان. طوال سنوات ما بعد هجمات نيويورك وواشنطن، شهدتدراسات الإسلام الحديث والمعاصر تجاهلاً، غير مبرر بأي صورة من الصور، لقوةالإسلام السياسي الإصلاحية والديمقراطية، أهملت نفوذها الشعبي الهائل، وصنعت بدلاًمن ذلك نموذجاً استبطن تماهياً لا ينفصم بين جماعات مسلحة، ذات نزعات إرهابيةدولية، محدودة النفوذ، وبين الإسلام ذاته كدين ومئات الملايين من المسلمين، متعدديالثقافات والتقاليد والبلاد. لم يشهد العالم الإسلامي قط مظاهرة شعبية مؤيدةللقاعدة، ولا استطاعت جماعة سلفية جهادية واحدة تحقيق إنجاز ملموس واحد في مناسبةانتخابية ما. وبالرغم من ذلك، أصبحت القاعدة وأخواتها من الجماعات المسلحة النموذجالسائد لقراءة الإسلام الحديث والمعاصر.
ليس ثمة شك أن العالم الإسلامي يعيش نزاعاً محتدماً حولموقع الإسلام ودوره في المجال العام. وهذا ما جعل العالم الإسلامي، ودائرتهالعربية والمشرقية على وجه الخصوص، يشهد أزمة تناقض هيكلي، لم يستطع حلها بعد. فمنناحية، وبالرغم من ابتذال الموضوعة، لم يمر العالم الإسلامي وجود مؤسسة وصايةكنسية، أو علاقة للدين بالدولة والطبقات الحاكمة والعلم والعقل الإنساني، شبيهةبالتجربة التي مرت بها أوروبا القرون الوسطى. ولذا، لم يكن ثمة حاجة لثورة إنسانيةعلى المؤسسة الدينية وسلطتها ودوغمتها المسيطرة، لا بمنطق عصر النهضة، عصرالتنوير، ولا الإصلاح البروتستانتي. ومن ناحية أخرى، استعار العالم الإسلامي، سواءبإرادة رجال دولته التحديثيين أو بقوة الإدارات الاستعمارية، نموذج الدولةالحديثة، الدولة المركزية، صاحبة السيطرة المطلقة على الأرض والشعب والمجال العام.وبعد أكثر من قرن ونصف القرن على ولادة الدولة الحديثة في العالم الإسلامي، أصبحلها جذور عميقة وراسخة، وطبقات ومؤسسات حاكمة، تدافع عن وجودها وبقائها. فيجوهرها، تنزع الدولة الحديثة نحو استبعاد كامل للدين والمؤسسات الاجتماعيةالتقليدية التي ارتكز إليها، في أحسن الأحوال، أو السعي للسيطرة على شؤون الدينوالتحكم بمؤسساته الاجتماعية، في أحوال أخرى.
كان هذا التناقض المتأزم القوة الرئيسية المؤسسة للتيارالإسلامي السياسي. وللصلة بين هذه الأزمة الهيكلية في بنية الاجتماع السياسيالإسلامي الحديث بلحظة الصدام الغربي الإمبريالي مع العالم الإسلامي، شكلت العلاقةمع الغرب، بصفته الإمبريالية المباشرة وهيمنته الثقافية، القوة الدافعة الثانيةلبروز الإسلام السياسي وسؤال موقع الإسلام ودوره في الحياة العامة.
عبر التيار الإسلامي السياسي في العقود الأولى عن نفسه بصورةدعوية، سياسية – برلمانية، احتجاجية شعبية، أو ضمن حركات المقاومة للاحتلالالأجنبي. ولكن السلوك القمعي الذي تبنته مؤسسات الحكم في عدد من الدول، مثل مصروسوريا والعراق والجزائر، وغيرها، ولدت جماعات حملت السلاح وتبنت العنف طريقاًللتغيير السياسي في بلدانها. مع نهاية القرن الماضي، كان عدد من جماعات العنفالمسلح قد اعتنق نهج العنف المسلح العابر للحدود، أو حتى العنف الدولي. وفي مواكبةهذا التطور، ولد ثمة خطاب تسويغي، ديني أو سياسي المفردات، حملته أصوات من شباننكرات في أغلبهم، يحاول أن يشرعن نهج العنف، سواء في صورته المحلية أو الدولية.تحول هؤلاء الشبان إلى نجوم في وسائل الإعلام العربية والعالمية، احتلت صورهمصدارة الصفحات والنشرات الإخبارية، وأصبحت نصوصهم مادة لدراسة الأكاديميينوالباحثين. وشيئاً فشيئاً، قدم هؤلاء وجماعاتهم ونشاطاتهم، بما في ذلك الدموية والإرهابيةمنها، باعتبارهم النموذج السائد لحركة الإسلام المعاصر.
كانت حركة الثورة العربية في موجتها الغالبة حركةالملايين من الشعب، التي تحركت في وضح النهار، في ساحات المدن الكبرى وميادينها،مسلحة بإرادتها وصوتها في مواجهة أدوات قمع الدولة وأجهزتها الأمنية، لتضم توجهاتوقوى سياسية متعددة، بما في ذلك القوى الإسلامية السياسية. في مقابل جماعات العملالسري المسلحة، أو المعزولة في الصحارى والجبال، التي تغذت على الكراهية ونمت فيمناخ القمع والاستبداد، واقترنت وسائلها بالعنف والموت، وحملت أهدافاً عدمية، عبرتحركة الثورة العربية عن أشواق الحياة الكريمة، ووعود التغيير السياسي والاجتماعي،ومستقبل أكثر عدلاً واحتراماً لإرادة الناس. احتلت الجماهير مجمل الصورة، ولم يعدثمة مجال لخطاب ونهج وقتامة جماعات العنف. وبين عشية وضحاها، سقط النموذج الطارىءوالمصطنع. وخلال شهور، كانت القوى الإسلامية السياسية، المعبرة عن أغلبية شعبيةمملوسة، تحقق فوزاً وراء الآخر في بعض من أكثر المناسبات الانتخابية شفافية التيشهدها المجال العربي منذ عقود طوال. ولكن تلك لم تكن نهاية القصة.
شكلت عملية التحول الديمقراطي، وصعود القوى الإسلاميةالإصلاحية، تحدياً كبيراً لعدد من الأنظمة العربية، التي اصطفت معاً لكبح حركةالثورة والتغيير في المجال العربي، ولقوى طائفية، ضيقة الأفق، لم تستطع التعايش معإرادة الأغلبية وأشواقها. وفي حمى الصراع المحتدم على روح العرب ومستقبلهم، نجحتالثورة العربية المضادة في إجهاض حركة التغيير أو إبطائها، أو في تحويلها إلى حربأهلية دموية، في عدد من دول الثورة العربية. وهذا ما وفر مجالاً من جديد لجماعاتالعنف المسلح، التي اندفعت مرة أخرى لاسترداد الموقع الذي كانت أغلقته الشعوبوالقوى الإسلامية الإصلاحية. في الشهور القليلة الماضية، حققت داعش صعوداً لمتعرفه جماعات العنف المسلح منذ عقود، لتصبح القوة الرئيسية في نضال الشعبين السوريوالعراقي ضد نظامي التسلط والطغيان في دمشق وبغداد، وتسيطر على أكثر من ربع مساحةالبلدين، بما في ذلك مدن هامة، مثل الموصل والرقة وتكريت ودير الزور. وبدا، للحظاتعلى الأقل، أن داعش، ونهج العنف والخطاب الإسلامي الحصري، الاستبعادي، ستعيد بناءنموذج ما بعد هجمات سبتمبر/ أيلول 2001.
ما قدمه صمود قطاع غزة وقوى المقاومة الإسلاميةالفلسطينية كان توكيداً آخر لعدم جدوى النموذج، لهشاشته، وفقدانه مصداقية التعبيرعن الشعوب العربية والتيار الإسلامي السياسي. لا تحمل قوى المقاومة الإسلاميةبرنامجاً وطنياً ورؤية وسطية وحسب، ولكنها تتقدم أيضاً النضال والتضحيات من أجلمصالح الشعب وحقوقه، بلا وصاية ولا استعلاء. هي لا تقود شعبها وحسب، بل وتعيشوتزدهر في حاضنة شعبية. بكلمة أخرى، أغلق صمود قطاع غزة والمقاومة الإسلاميةالطريق على عودة نموذج كريه للإسلام والتيار الإسلامي.
٭ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
صحيفة القدس العربي اللندنية
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

مسؤولون بالبرلمان الأوروبي يطالبون إسرائيل بإنهاء حصار غزة فورا
المركز الفلسطيني للإعلام طالب قادة العديد من الجماعات السياسية في البرلمان الأوروبي اليوم السبت، إسرائيل بالاستئناف الفوري لإدخال المساعدات...

جراء التجويع والحصار .. موت صامت يأكل كبار السن في غزة
المركز الفلسطيني للإعلام قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إنّه إلى جانب أعداد الشهداء التي لا تتوقف جرّاء القصف الإسرائيلي المتواصل، فإنّ موتًا...

إصابات واعتقالات بمواجهات مع الاحتلال في رام الله
رام الله – المركز الفلسطيني للإعلام أُصيب عدد من الشبان واعتُقل آخرون خلال مواجهات اندلعت مع قوات الاحتلال الإسرائيلي في عدة بلدات بمحافظة رام الله...

القسام ينشر مقطع فيديو لأسيرين إسرائيليين أحدهما حاول الانتحار
المركز الفلسطيني للإعلام نشرت كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، السبت، مقطع فيديو لأسيرين إسرائيليين ظهر أحدهما بحالة صعبة وممددا على الفراش....

جرائم الإبادة تلاحق السياح الإسرائيليين في اليابان
المركز الفلسطيني للإعلام في خطوة احتجاجية غير مسبوقة، فرضت شركة تشغيل فنادق في مدينة كيوتو اليابانية على الزبائن الإسرائيليين توقيع تعهد بعدم التورط...

سلطة المياه: 85 % من منشآت المياه والصرف الصحي بغزة تعرضت لأضرار جسيمة
المركز الفلسطيني للإعلام حذرت سلطة المياه الفلسطينية من كارثة إنسانية وشيكة تهدد أكثر من 2.3 مليون مواطن في قطاع غزة، نتيجة انهيار شبه الكامل في...

تقرير: إسرائيل تقتل مرضى السرطان انتظارًا وتضعهم في أتون جريمة الإبادة الجماعية
المركز الفلسطيني للإعلام حذر المركز الفلسطيني لحقوق الانسان، من إصرار دولة الاحتلال الاسرائيلي على الاستمرار في حرمان مرضى الأورام السرطانية من...