الثلاثاء 13/مايو/2025

حياد ليس باسمنا

حياد ليس باسمنا

هل أصبحت مصر محايدة إزاء الصراع العربي الإسرائيلي؟.. لوأن أحداً ألقى علي السؤال قبل سنوات لقلت له على الفور: خسئت.. فمصر ليست الدولة التييوجه إليها سؤال من هذا القبيل، إلا أن الدنيا تغيرت على نحو لم يخطر لمثلي على بال،بحيث إن السؤال الذي كنا نعتبره مجرد إطلاقه من المحرمات المخزية التي تشين المرء وتجرحانتماءه، أصبح وارداً، بل صرنا نحن الذين نلقيه، بعدما استبدت بنا الحيرة واختلطت الأوراقبحيث اهتزت الثوابت، وصار الحرام حلالاً والحلال حراماً.

خلال سنوات حكم مبارك بل وأثناء حكم السادات مرت العلاقاتالمصرية الفلسطينية بمراحل من البرود لأسباب طارئة. لكنني لا أتذكر أن فكرة الحيادإزاء القضية كانت واردة. وحتى حين استشاط السادات غضباً بعد اغتيال يوسف السباعي فيقبرص وبعد توقيعه اتفاق السلام مع “إسرائيل”، فإن البيانات الرسمية ظلت تعبرعن إدانة الاعتداءات الإسرائيلية والدفاع عن القضية الفلسطينية.. حتى إذا كان ذلك قدتم من باب تسجيل المواقف في وسائل الإعلام في حين كانت السياسة تمضى باتجاه آخر، فالشاهدأن الخطاب السياسي والإعلامي ظل مرتبطاً بموقف معلن كان من الصعب النزول عنه.

وهو الموقف الذي تشير القرائن الأخيرة إلى أنه تم العدولعنه. ذلك أن ما كان نوعاً من البرود بدا وكأنه نزوع إلى الحياد. والفرق بين الحالتينكبير، فالبرود يفترض أن هناك موقفاً لا يراد الإعلان عنه، في حين أن الحياد بمثابةوقوف فى الوسط بين طرفين وقد يكون تعبيراً عن اللاموقف.. وإذا تذكرنا أننا كنا نتحدثعن قضية فلسطين باعتبارها القضية المركزية في العالم العربى. فإن الانتقال من مركزيةالقضية إلى الحياد إزاءها يغدو نقلة هائلة وانتكاسة كبرى، أقرب إلى الانقلاب في الموقفالسياسي.

ما دعانى إلى التساؤل عن موقف الحياد ــ وأنا أتحدث عن السلطةوليس المجتمع ــ هو اللغة التى تحدثت بها وزارة الخارجية المصرية في تعليقها على الانقضاضالإسرائيلي الأخير على غزة، والهجوم الوحشي الذي استهدف مواقع المقاومة ومساكن المدنيين.ذلك أنه حين بدأ العدوان المكثف يوم الاثنين 7/7 نشرت جريدة الأهرام في عدد الثلاثاءتصريحا للسفير بدر عبدالعاطي المتحدث الرسمى باسم وزارة الخارجية أعرب فيه عن «إدانةمصر لسلسلة الغارات التي شنها الطيران الإسرائيلي على قطاع غزة»، وبعد الإشارة إلىرفض مصر للقصف الذى يستهدف المدنيين، دعا المتحدث السفير عبدالعاطي إلى وقف السياساتالاستفزازية، وفي مقدمتها النشاط الاستيطانى وسياسة فرض الأمر الواقع «من جانب إسرائيلبطبيعة الحال».

هذا الموقف الذي أدان الغارات الإسرائيلية وانتقد سياسة “إسرائيل”الاستفزازية والاستيطانية تغير بعد 48 ساعة، حيث قرأنا كلاماً مختلفاً وغريباً للمتحدثباسم الخارجية المصرية، ورد نصه فى موقع الوزارة يوم 9/7. وجاء فى النص ما يلي: أعربالمتحدث الرسمي عن قلق مصر الشديد من استمرار تصاعد الأوضاع في الأراضى الفلسطينيةخلال الساعات الأخيرة مجدداً المطالبة بضبط النفس والابتعاد الكامل والفوري عن أعمال«العنف المتبادل».. لتجنيب المدنيين ويلاته.. مما يؤدي إلى صعوبة العودة إلى المفاوضاتالتي تقود إلى تطلعات الشعب الفلسطينى وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشرقيةفى إطار تنفيذ قرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية.. «ودعا» المتحدث إلىضرورة البدء الفورى في اتصالات مباشرة بين الجانبين للعمل على إنفاذ العدالة، مؤكداًأن مصر تبذل جهوداً مكثفة بالتعاون والتنسيق مع جميع الأطراف الإقليمية والدولية للحيلولةدون إراقة مزيد من دماء المدنيين… إلخ.

المتابع للشأن الفلسطيني يصدمه البيان، الذي بدا متراجعاً.حتى أزعم أنه أضعف وأسوأ ما صدر عن الخارجية المصرية بخصوص القضية. فليست فيه كلمةإدنة لخمسمائة غارة إسرائيلية ألقت حوالى 400 طن متفجرات وقتلت نحو مائة فلسطيني وأصابتأكثر من 500. في حين أن صواريخ المقاومة الفلسطينية أزعجتهم حقاً، لكنها لم تقتل إسرائيلياًواحداً. وقد وصف الاشتباك بأنه «عنف متبادل»، تساوى في ظله القتيل مع القاتل ــ ثمإن الكلام عن ضبط النفس والدعوة إلى العودة للمفاوضات «لإنفاذ العدالة» كلام يرد فيأي بيان يصدر عن أي مسئول فى الكرة الأرضية لا علاقة له بالموضوع ــ بل إن هذه المعانيوردت كلها فى مقالة للرئيس الأمريكي باراك أوباما. نشرتها إحدى الصحف الألمانية كماذكرت جريدة الأهرام فى عدد 10/7. هذا الموقف المحايد يلحظه أي متابع للحدث. وقد سجلتهصحيفة «نيويورك تايمز» في تقرير نشرته فى 9/7 ، ذكرت فيه أن مصر بدت وكأنها «رفعت يدها»عن دور الوساطة الذى اعتادت أن تقوم به فى مثل هذه الحالات. وأن ذلك يعكس «تحولاً فيسياستها الخارجية في عهد رئيسها الجديد عبدالفتاح السيسي». وقد أشارت صحيفة «المصرياليوم» أمس إلى المعنى ذاته حين نشرت تقريراً كان عنوانه «صحف أمريكية تنتقد الصمتالمصري على قصف غزة».

لا يستطيع أحد أن يتجاهل حقيقة أن الحياد المصري الظاهر إزاءحملة التدمير والإبادة الإسرائيلية الموجهة ضد القطاع متأثر بمشكلة السلطة مع الإخوان،ورذاذها الذي طال حماس والمقاومة الفلسطينية، وإذا صح ذلك فإنه يعد من قبيل التضحيةبما هو إستراتيجي جراء التأثر بعوامل تكتيكية عارضة.

الصدمة في حياد مصر الرسمية وفي صمت الكثيرين من عناصر النخبةالمصرية لا تكاد تصدق. كما يصدمنا أيضاً أن بين الأخيرين من بشرنا قبل عدة أشهر بعودةعبدالناصر وزمانه. وإذ ينعقد لسان المرء من الذهول والدهشة إزاء هذا الموقف، فإننيلا أملك سوى أن أصيح بأعلى صوت: ليس باسمنا صدر بيان الخارجية، لأنه لا يعبر إلا عنالذي أوصوا به وصاغوه.

صحيفة الشرق القطرية

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات