النصوص التنبؤية والجبرية السياسية!

بدايةً من الضروري الانتباه إلى أن القرآن الكريم وهو النواة الصلبة والنبع الصافي الذي لم يصل إليه أدنى تحريف يكاد يكون خالياً من مثل هذه النصوص التنبؤية، وهذا الخلو طبيعي بالنظر إلى طبيعة رسالة الدين المتمثلة في هداية الناس وشفاء ما في الصدور وتحقيق التقوى والصلاح في حياتهم، فالدين لم يأت ليقدم للناس نبوءات تفصيليةً حول أحداث المستقبل والنبي ذاته يقول: “ما أدري ما يفعل بي ولا بكم” ويقول: ” لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء”..
أما السنة ففيها مرويات كثيرة تتنبأ بأحداث تفصيلية ستقع في المستقبل، والمساحة التي أعطتها ثقافة المسلمين لهذه النصوص أخلَّت بالنسبة الطبيعية التي نجدها في القرآن، وحرفت طبيعة الدين من كونه رسالةً روحيةً إصلاحية وحولته إلى تنبؤات مستقبلية وما هذه برسالة الدين، وبالتأكيد فإن هذه الأحاديث قد خلطت بين الصحيح والضعيف..
لكن إذا تجاوزنا مشكلة السند في هذه الأحاديث وتعاملنا مع ما نظنه صحيحاً منها فكيف نتعامل مع هذه الأحاديث في واقعنا وكيف نحول دون سوء فهمها واستعمالها؟؟
ما تفيده هذه الأحاديث هو أن أحداثاً ستقع في وقت ما في ظروف ما بكيفية ما، لكنها لا تأمرنا بفعل محدد غير الأوامر والنواهي العامة في القرآن والسنة، أي أن مضمون هذه الأحاديث لا يبنى عليه فعل محدد، وأن علينا أن نواصل السلوك الطبيعي دون أن تمثل هذه النصوص سلطاناً جبرياً علينا.
لكن المشكلة الخطيرة هي في الأفكار غير المعلنة التي تنشط في الخفاء فتترك أثراً في سلوكنا يشبه حالة الجبرية التي يقاد فيها الإنسان مأسوراً بالأفكار الخفية التي تشكل طريقة تفكيره، فمع أن هذه النصوص التنبؤية لا تأمرنا بأي فعل خاص ولا تطلب منا التدخل لتحقيقها إلا أنه يحدث الخلط بين هذه النصوص المطلقة من التقييد بزمان محدد وبين واقعنا السياسي الراهن فيتشكل تصور في العقول أن مسار الأحداث لن يحتمل إلا شكلاً واحداً يقودنا إلى تحقق هذه النبوءة، وهذا التصور يفصل صاحبه عن الواقع الموضوعي ويدفعه إلى إسقاط كثير من المعطيات، وفي المقابل تضخيم تفاصيل صغيرة ليست ذات قيمة في المشهد السياسي ظناً منه أن هذا هو الوقت الراهن لتحقق النبوءة. وهنا أذكر تعليق فريق من أصحاب هذا التفكير على القصف الكيماوي للغوطة بدمشق وما أعقبه من تهديدات أمريكية بضرب النظام السوري، فاستحضروا النصوص النبوية التي تتحدث عن معركة عظيمة في الغوطة مع الروم، ووضعوا سيناريوهات لحرب عالمية ثالثة وحددوا كيف ستبدأ وكيف ستنتهي، ليس استناداً إلى المعطيات الواقعية بطبيعة الحال إنما استناداً لتوظيف النصوص التنبؤية بمعزل عن شروط الواقع، لكن شيئاً من هذه التوقعات لم يحدث، وانقشع الغبار عن أن التهديدات بالحرب لم تكن إلا للضغط السياسي!
هذا مثال ليس نادراً بل يتكرر باستمرار وأصحاب هذا التفكير يفتنون في كل عام مرةً أو مرتين، فكلما لاح طرف خيط فيه شبهة ربط بنبوءة سارعوا إلى التقاطه وبناء تقديراتهم السياسية وسلوكهم العملي على أساسه، وهذا التوظيف للنصوص التنبؤية يعطي لها سلطان جبر في قيادة تفكيرنا وأفعالنا مما يضر بفهمنا السياسي وقراءتنا الموضوعية للواقع، فنعيش في عالم متوهم ننسجه في عقولنا بدل أن نعيش ظروف الواقع ونفهم متطلباته، وفي هذه الحالة يصبح غير المتدينين أكثر ذكاءً وبراعةً سياسيةً لأنهم قد تحرروا من هذا الإصر والأغلال الذي وضعه المتدينون على عقولهم، فهم يفهمون الواقع متحررين من أي أحكام مسبقة تجبرهم على تطويع الأحداث لموافقتها، هم يقرءون الواقع فيستنتجون من المقدمات الراهنة نتائج محتملةً أما أصحاب الفكر التنبؤي فيضعون النتائج الحتمية في عقولهم ثم يلوون أعناق الأحداث لتناسب تلك النتائج المسبقة مما يعني أنهم لم يعودوا يعيشون الواقع، وفي هذه الحالة يصبح التدين فتنةً للذين كفروا لأنهم سيقولون هذا هو الدين يفصلكم عن الواقع ويبعدكم عن القراءة السياسية العقلانية بينما عقولنا متحررة ونحن واقعيون فلماذا نضطر إلى دين سيقيد تفكيرنا ويخلق جبريةً على أفعالنا!
الدين لم يقل لنا أن نرهن عقولنا لتنبؤات مستقبلية فليست هذه هي وظيفة الدين، ولنا في رسول الله أسوة حسنة فهو كان يعيش واقعه السياسي ويحلل معطياته ويبني قراراته على أساس تلك المعطيات ولم يكن ينتظر نزول جبريل عليه السلام ليوجهه في السلوك السياسي، بل إن هناك مثالاً بالغ الدلالة في السيرة النبوية يبطل جبرية النصوص التنبؤية وهو موقفه في صلح الحديبية وكان قد أخبر صحابته بأن الله تعالى بشره بدخول مكة وطواف البيت: “لقد صدق اللّه رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء اللّه آمنين” فلم يشك الصحابة في أن هذه الرؤيا ستتحقق العام، لكن لما تم توقيع صلح الحديبية كان من شروطه أن يرجعوا إلى المدينة دون أن يعتمروا وأن يعودوا في العام القادم، فوقع في نفوس بعض الصحابة رضي اللّه عنهم من ذلك شيء، حتى سأل عمر بن الخطاب النبي: أفلم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: “بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا؟” قال: لا، قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: “فإنك آتيه ومطوف به”.
هذا المثال نموذجي لأنه متكامل الأركان قد حضر فيه النص التنبؤي من جهة ومقتضيات الفعل السياسي الواقعي من جهة أخرى.
النبوءة القرآنية تبشر الصحابة وهم في المدينة قد أبعدوا قسراً عن وطنهم أنهم سيدخلون المسجد الحرام، ولما شارف الصحابة فعلاً على الوصول إلى مكة وصاروا قاب قوسين أو أدنى من تحقيق البشارة تطلبت مقتضيات السياسة الواقعية فعلاً آخر وهو توقيع اتفاق مصالحة مع قريش كان من مقتضياته ألا يدخل المسلمون هذا العام المسجد الحرام حتى لا تقول العرب إنهم دخلوها عنوةً على قريش وأن يعودوا في العام القادم، هنا حدث لبس في فهم المسلمين يشبه ما يحدث في عصرنا هذا أيضاً وهو التناقض بين مضمون البشارة القرآنية وبين الواقع السياسي الراهن، لكن النبي عليه الصلاة والسلام أزال هذا اللبس ببساطة، فالبشارة القرآنية حتمية الوقوع لكن ليس بالضرورة في الوقت والكيفية التي نظن أنها ستحدث فيها، وكل ما تفيده البشارة هو الطمأنينة العامة لكنها لا تفصلنا عن مقتضيات الواقع السياسي ولا تجبرنا على فعل محدد، والنبي عليه السلام تصرف بمقتضى الواقع السياسي لا بمقتضى البشارة القرآنية التي منحته الطمأنينة بحسن العاقبة.
هذا هو المنهج الذي ينبغي أن نتمثله في سلوكنا السياسي، أن نحرر عقولنا من جبرية النصوص، وأن نتصرف وفق مقتضيات الواقع ونبني سلوكنا العملي وفق الفهم الموضوعي للحالة الراهنة، أما ما صح من الأحاديث التنبؤية فهو سيحدث يوماً ما بكيفية ما، وعلم ذلك عند ربي، ومعرفة حدوثه لا يقتضي منا فعلاً خاصاً ، لأن الله لم يكلفنا باستقدام هذه الأحداث، بل كلفنا بما نراه في واقعنا.
من أبرز تجليات مشكلة الجبرية في فهم النصوص التنبؤية الموقف من الأحاديث التي تخبر عن قتال المسلمين لليهود واختباء اليهود خلف الشجر والحجر، والظن أن هذه النبوءة ستتحقق بالضرورة في هذه المرحلة التاريخية وفي هذه الجولة من جولات الصراع، مما يؤدي إلى رفض أي تناول سياسي لمشكلة الاحتلال في فلسطين، والزهد في مناقشة الحلول السياسية الممكنة، ليس بدافع فهم الواقع، إنما بتوجيه الأفكار الخفية في اللا شعور والتي أنشأت خيالاً عاماً حول توقع صيرورة الأحداث، والنبوءة لم تخبرنا عن موعد تحققها، فما يدرينا ربما تنتهي هذه الجولة بحل سياسي، وتعود الكرة بعد ألف أو ألفي سنة خاصةً، فتتحقق النبوءة في ذلك الوقت، فما دمنا غير متأكدين فإن التعامل ينبغي أن يكون واقعياً، وأفعالنا ينبغي أن تستند إلى فهم مقتضيات الواقع ومراعاة موازين القوى، وكل ما نبأ به النبي سيتحقق يوماً ما بطريقة ما لكننا لسنا مكلفين بأكثر من الاستجابة العقلانية لتحديات الواقع والغيب لله وحده..
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

صاروخ يمني فرط صوتي يستهدف مطار بن غوريون ويوقفه عن العمل
صنعاء – المركز الفلسطيني للإعلام قال المتحدث باسم القوات المسلحة اليمنية، العميد يحيى سريع، إن القوات الصاروخية استهدفت مطار "بن غوريون" في منطقة...

المقاومة تقصف عسقلان وأسدود وغلاف غزة
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام تبنت " سرايا القدس" الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، مساء اليوم، قصف اسدود وعسقلان ومستوطنات غلاف غزة برشقات...

لازاريني: استخدام إسرائيل سلاح التجويع جريمة حرب موصوفة
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام قال المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، فيليب لازاريني، إن استخدام "إسرائيل"...

24 شهيدًا وعشرات الجرحى والمفقودين بقصف محيط المستشفى الأوروبي بخانيونس
غزة- المركز الفلسطيني للإعلام اسشتهد 24 فلسطينياً وأصيب عدد كبير بجراح مختلفة فيما فُقد عدد من المواطنين تحت الركام، إثر استهداف إسرائيلي بأحزمة...

المبادر المتخابر في قبضة أمن المقاومة والحارس تكشف تفاصيل
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام كشفت مصادر أمنية اعترافات عميل تخابر مع الاحتلال الإسرائيلي تحت غطاء "مبادر مجتمعي"، لجمع معلومات حول المقاومة...

حماس: قرار الاحتلال بشأن أراضي الضفة خطوة خطيرة ضمن مشروع التهجير
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام اعتبرت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، إنّ قرار الاحتلال الإسرائيلي إعادة تفعيل ما يُسمّى “عملية تسجيل ملكية الأراضي...

علماء فلسطين: محاولة ذبح قربان في الأقصى انتهاك خطير لقدسية المسجد
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام اعتبرت "هيئة علماء فلسطين"، محاولة مستوطنين إسرائيليين، أمس الاثنين، "ذبح قربان" في المسجد الأقصى بمدينة القدس...