الثلاثاء 13/مايو/2025

مفترق طرق

نقولا ناصر
إن توجه الرئيس محمود عباس نحو تدويل المفاوضات بالانضمام إلى المعاهدات والاتفاقيات والوكالات والمنظمات الدولية هو دليل لا جدال فيه على أن استراتيجية المفاوضات الثنائية بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين دولة الاحتلال الإسرائيلي برعاية أمريكية قد فشلت ووصلت إلى طريق مسدود بعد ما يزيد على عشرين عامًا من انطلاقها، ما يعني أن القضية الفلسطينية وشعبها وقياداتها يقفون اليوم عند مفترق طرق ومنعطف مهم يضع مسيرتهم الوطنية من أجل التحرر والاستقلال في مأزق البحث عن توافق وطني على استراتيجية بديلة.

ومن الواضح أن توجه عباس، أو تهديده بالتوجه، نحو تدويل المفاوضات إنما هو بديل تكتيكي يستبدل “أمركة” البحث عن حل تفاوضي بـ”تدويل” البحث عنه من دون التخلي عن استراتيجية التسوية السياسية بالتفاوض واستمرار الالتزام بـ”نبذ العنف” كشرط مسبق.

وهذا هو البديل الوحيد الذي يعلنه عباس حتى الآن، وهو بالتأكيد ليس استراتيجية بديلة تضع أساسًا لوحدة وطنية تنهي الانقسام الوطني الراهن.

لقد كانت “السلطة الفلسطينية” مشروعًا إسرائيليًا للحكم الذاتي الفلسطيني لإدارة السكان من دون الأرض، وكانت هذه السلطة هي المكافأة الوحيدة و”الإنجاز” الوحيد لقيادة منظمة التحرير مقابل اعترافها بدولة الاحتلال.

فالاعتراف الدولي بالمنظمة ممثلاً شرعيًا وحيدًا لشعبها إنجاز حققته المقاومة وليس المفاوضات، و”دولة فلسطين” إنجاز حققته المقاومة عربيًا قبل المفاوضات واعترفت به الأمم المتحدة خارج إطار المفاوضات والرعاية الأمريكية لها.

إن الاعتراف الدولي بـ”دولة فلسطين” حوّل “السلطة الفلسطينية” إلى سقط متاع لم تعد توجد حاجة إليه لاعتراف المجتمع الدولي بأن الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 هي ملك لشعب فلسطين وليست جزءًا من دولة الاحتلال، ما يجعل حل السلطة تحصيل حاصل تتردد رئاسة منظمة التحرير في الإقدام عليه حتى الآن.

فقد حان الوقت لاستبدال “السلطة الفلسطينية” بحكومة دولة فلسطين، فإما أن تعترف دولة الاحتلال بها أو تتحول إلى حكومة في المنفى أو تتخذ من قطاع غزة مقرًا لها بعيدًا عن السيطرة المباشرة للاحتلال في حال رفضت أي دولة عربية أو أجنبية استضافتها وهذا هو الخيار الأفضل الذي سوف يكون مدخلاً موضوعيًا لاستعادة الوحدة الوطنية ولو مرحليًا.

إن الدعوة إلى انتخابات لرئاسة “السلطة الفلسطينية” ومجلسها التشريعي تعد خطوة إلى الوراء بعد اعتراف الأمم المتحدة بدولة فلسطين، فهذه الانتخابات قد اشترطها اتفاق أوسلو لإضفاء شرعية فلسطينية على المشروع الإسرائيلي للحكم الذاتي الفلسطيني، لكن هذا الاتفاق وما تمخض عنه قد تجاوزته الأحداث.

فتحويل دولة فلسطين من دولة على الورق إلى دولة على الأرض بالاتفاق مع دولة الاحتلال وهم لن يتحقق، فهذه مهمة ثورية تحتاج إلى التفكير بمنطق الثورة لا بمنطق الدولة، وتحتاج إلى قادة ثورة لا إلى رجال دولة، وبالتالي فإنها مهمة تستدعي العودة إلى المقاومة وشرعيتها بدلاً من الشرعية الانتخابية لاختيار القيادات.
وإذا قرر الرئيس عباس “تمديد” المفاوضات الحالية أو قرر تدويلها في إطار الالتزام باستراتيجية التسوية السياسية عن طريق التفاوض، فإن موسم الحصاد الاستثنائي الذي بدأت دولة الاحتلال في جني ثماره الوفيرة بتوقيع اتفاق أوسلو سوف يستمر.

إن جردة سريعة لحصاد عشرين عامًا من استراتيجية التفاوض الحالية تبين أن نتيجتها كانت صفرًا فلسطينيًا كبيرًا، لكن نتائجها كانت موسم حصاد استثنائي للاحتلال ودولته ولم يعد الوضع الفلسطيني الراهن يحتمل الاستمرار في هذه الاستراتيجية الكارثية.

فالمفاوضات التي يحتكر رعايتها وسيط أمريكي وحيد منحاز تمامًا لدولة الاحتلال قد ألغت أي دور للأمم المتحدة والمجتمع الدولي، ومزقت وحدة النضال الفلسطيني، وجزأت الشعب إلى تجمعات منفصلة، وخلقت الانقسام، وأسقطت المقاطعة العربية والدولية لدولة الاحتلال، وحاصرت المقاومة الوطنية حيث لم تستطع إسقاطها، وكانت مسوغًا لاستمرار حصار قطاع غزة الذي وصفه المفوض العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) فيليبو غراندي في خطابه الوداعي بجامعة بيرزيت في الثاني والعشرين من الشهر الماضي بأنه أصبح أطول من عمليات الحصار التاريخية التي شهدها القرن الماضي في ليننغراد وبرلين وسراييفو، وخلقت مفارقات مفجعة مثل مساعي التطبيع العربية السرية والعلنية بينما تتصاعد مساعي مقاطعة دولة الاحتلال في أوروبا والولايات المتحدة وغيرهما، ومثل فتح سفارات وممثليات لدولة الاحتلال وترميم المعابد اليهودية في مصر والأردن وليبيا وتونس وغيرها من الدول العربية بينما يستمر تهويد القدس وانتهاك قدسية وحرمة ثالث الحرمين الشريفين ومسرى النبي محمد ومعراجه وتتسارع الاستعدادات اليهودية والصهيونية فوق الأرض وتحتها لبناء “الهيكل الثالث” على أنقاضه، ناهيك عن تضاعف الاستعمار الاستيطاني ثلاث مرات منذ بدء المفاوضات وضم القدس الشرقية وعزلها عن محيطها العربي والإسلامي جغرافيًا وديموغرافيًا، وكل ذلك وغيره حوّل الاحتلال إلى “خطر وجودي على المجتمع” الفلسطيني كما قال غراندي.

ومع ذلك استبعد المتحدث الرسمي باسم الرئاسة نبيل أبو ردينة حدوث أي “انفجار” فلسطيني في معرض تعليقه على اجتماع عباس مع وفد من كنيست دولة الاحتلال الأربعاء الماضي، قائلاً: إن الاجتماع ناقش وأدان “القتل والعنف من الجانبين” وأن عباس أكد خلاله أنه “ضد العنف والعودة إلى العنف”.

وعبارة “العودة إلى العنف” تشير إشارة واضحة إلى الدفاع عن النفس الذي مارسه الشعب الفلسطيني في انتفاضة الأقصى بعد أن سقط له فيها ما يزيد على ثلاثمائة شهيد خلال الشهور الثلاثة الأولى من انتفاضته السلمية الثانية لم يطلق خلالها رصاصة مقاومة واحدة حسب تقرير منظمة “بتسيلم” الإسرائيلية في مستهل عام 2001.

لقد كان “العنف” ممارسة من جانب واحد تمارسها دولة الاحتلال كقاعدة وحيدة للتعامل مع الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال أو المشرد في المنافي والمهاجر، ومع ذلك ما زال الخطاب الرسمي للرئاسة الفلسطينية يساوي بين عنف الاحتلال وبين مقاومته مساواة تخلط في ذهن الرأي العام العالمي بين المقاومة وبين الإرهاب وتساوي بين عنف الاحتلال وبين عنف الدفاع عن النفس ضده.

وكان عباس في معرض إدانته لمقتل القيادي في الاستخبارات الإلكترونية في جيش الاحتلال وشرطته، باروخ مزراحي، قرب الخليل الأسبوع الماضي أكد على استمرار “التنسيق الأمني” مع دولة الاحتلال، لأن “الدم الإسرائيلي” مثل الدم الفلسطيني “دم إنساني غالٍ” كما نسب القول لوزير الأوقاف في حكومة السلطة الفلسطينية برام الله محمود الهباش” في معرض استنكاره لمقتل مزراحي.

في مقال له نشره يوم الخميس الماضي باللغة الإنكليزية، لفت نظر الصحفي الفلسطيني المغترب رمزي بارود تصريح لنائب وزير خارجية دولة الاحتلال، زئيف ألكين، في مقابلة له مؤخرًا مع مجلة الإيكونوميست البريطانية قال فيه: إن الضفة الغربية الفلسطينية لنهر الأردن هي “الجزء الأكثر استقرارًا في الشرق الأوسط” هذه الأيام، وفسر بارود السبب في ذلك باستمرار “التنسيق الأمني” للسلطة الفلسطينية برام الله مع الاحتلال ودولته قائلاً: إن “الإسرائيليين” ما زالوا بحاجة إلى هذه السلطة لهذا السبب بالذات.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات