الثلاثاء 13/مايو/2025

أوروبا والربيع العربي.. انتهى الحفل

حسام شاكر
أوقعت الهبات العربية في إطلالتها الأولى مفاجأة في أوروبا، حيث خيّم الصمت والارتباك على المشهد الأوروبي حتى أواسط فبراير/شباط 2011، إلى أن تيقن الجميع أن عرش مبارك يهتز حقا بعد سقوط نظام بن علي.

وما إن انتقلت جذوة الانتفاضة الشعبية إلى مصر حتى اتضح أنّها مرحلة عربية جديدة، وليست حدثا تونسيا معزولا، ولما التهبت القاهرة غضبا، انصرفت عواصم أوروبا للوهلة الأولى إلى اهتماماتها التقليدية، من أمن قناة السويس، ودور الإسلاميين المُرتَقب، إلى الانشغال الفائق بالرقعة الواقعة شرقا حيث توجد فلسطين المحتلة.

لم تكن أذهان الصفوة الأوروبية قد تهيأت بعد لاستيعاب التحول الذي يفرض العامل الجديد، وهو الشعوب.

من القسط القول إنّ الانفتاح على الشعوب العربية لم يحضر بوضوح في اهتمامات السياسات الخارجية الأوروبية نحو المنطقة حتى انطلاق شرارة سيدي بوزيد. وهو استنتاج يمكن البرهنة عليه رغم وفرة برامج الثقافة والإعلام وجهود الدبلوماسية الشعبية والارتباطات القائمة مع منظمات عربية.

فالسياسات الخارجية “البراغماتية” فضلت أنظمة “الاستقرار وحماية المصالح ومكافحة الإرهاب وكبح الهجرة”، على دعم الديمقراطية وإطلاق الحريات.

لهذا تمادت بعض الأنظمة في انتهاك الديمقراطية وحقوق الإنسان وتصميم انتخابات شكلية وفرض حالة الطوارئ، مع تمتّعها بحصانة خارجية من اللوم أو المحاسبة أو حتى من الانتقاد الإعلامي الجاد.

ما هزته التطورات العربية المفاجئة هو نمط العلاقات الذي تمّ تكريسه منذ إعلانات الاستقلال. فنظم الحكم التي رعت المصالح الغربية في المنطقة وتولت السيطرة على شعوبها، بدت منشغلة باختبار البقاء، أو بتعبير المعلق الألماني ديتر ساتلر فإن “الحكام العرب الذين حظوا بالتدليل من الغرب بدعوى الاستقرار، لم يعودوا صالحين للمستقبل” (“فرانكفورتر نويه برسّه”، 7 فبراير/شباط 2011).

وكما يتبين من مبادرات العقد الماضي، مثل “مشروع الشرق الأوسط الكبير” (2004) الذي نادى بإصلاحات جزئية تخفف الضغوط المتعاظمة عن الشعوب المكبوتة خشية الانفجار، فإن نخبا غربية انشغلت حينها بهاجس تضعضع أدوات الحكم المدعومة غربيا، أي باحتمال سقوط معادلة الاستبداد الذي يضمن المصالح. ما ينتصب في هذا الصدد هو عظة الثورة الإيرانية، عندما استصحبت نقمة الشعب على الشاه رضا بهلوي غضبا جارفا على الغرب الذي تمسك بوكيله في طهران حتى اللحظة الأخيرة.

ولمّا أظهرت الهبّات العربية في شهورها الأولى ارتباك أوروبا في التعامل مع الحدث الكبير، برزت مفارقات شتّى، فلم يأتِ إعلامها مثلاً على نعت بن علي بالطاغية طوال ربع قرن إلا لحظة سقوطه تقريبا.

ولعلّ النموذج الإيطالي بالتحديد يصلح لقياس اتجاهات التقلّب في السياسات الخارجية الأوروبية، لأنّ روما ظلّت “بلا سياسة خارجية فعلية” كما يُقال.

ففي غمرة مفاجأة التحول العربي، بلغ الأمر بوزير خارجيتها فرانكو فراتيني حد الاضطراب في قراءة ما يجري بعد سقوط بن علي، حتى قال: “من الضروري أن ندعم بقوة حكومات تلك البلدان، من المغرب إلى مصر (في عهد مبارك)، التي يقودها ملوك أو رؤساء دول شيدوا أنظمة علمانية حَمَت من الأصوليّات”.

وبدا منافحا عن العقيد الليبي بقوله: “إنني أستشهد بمثال القذافي الذي حقق في بلاده إصلاحا سماه بالمؤتمرات الشعبية الإقليمية (…) وبالنسبة لي تُعَدّ هذه مؤشِّرات إيجابية” (صحيفة “كورييري ديلّا سيرا”، 17 يناير/كانون ثاني 2011).

بيد أنّ مراكز الاستشعار الأوروبية كانت تتابع الموقف بحذر بالغ، فنضجت مع حلول مارس/آذار 2011 ملامح استجابة أوروبية للتحدِّي العربي الجديد الذي اتخذ من انتفاضة الشعوب عنواناً له، بعد انقضاء فجوة زمنية غلب عليها الصمت والتلكّؤ في القارة التي تتنازعها سياسات خارجية متفرقة الأهواء.

فعلاوة على لفتات التقدير للتوجه الديمقراطي وتحركات الشعوب وإطلاق تصريحات متعلقة بحقوق الإنسان، سعت أطراف أوروبية إلى الإمساك بزمام المبادرة في التفاعل مع الأحداث وملء فراغات تركتها انهيارات في منظومة العلاقات السابقة بين شاطئي المتوسط.

عندها تحديدا بلغت الحفاوة بالحدث العربي المجيد مبلغها بإغداق الجوائز والألقاب على وجوه وأسماء ارتبطت به، من جوائز “زاخاروف” في البرلمان الأوروبي إلى “نوبل” التي حازتها للمرة الأولى عربية ترتدي غطاء الرأس.

وبين هذه وتلك وفرة من دروع التقدير التي تناثرت على شبان وشابات، تمّ انتقاؤهم من المشهد العربي المُستعِر بمَطالِب إسقاط الأنظمة.

لعلّ الخلاصة الأهمّ في هذا السياق ما كشفته مفاجآت تونس ومصر ابتداء من عجز معادلة الانسداد السياسي الشامل التي حكمت المنطقة عن الاستدامة عقودا إضافية.

من هنا جاءت الانتباهة الأوروبية للانعطافة التاريخية في المنطقة، المتولدة من الإرادة الشعبية التي ظلّت مُغيّبة عهدا طويلا، لكنّ ذلك لم يَعنِ بحال ترك التفاعلات الشعبية بمعزل عن الاستقطابات أو التأثيرات.

وعليه، دأبت الأطراف الأوروبية والغربية المهتمّة بالتحوّلات على استيعاب الحدث وتشوّف الآتي وعدم الارتهان للمفاجآت القادمة.

على هذا النحو انتقل الموقف الأوروبي من الارتباك إلى التوجه للإمساك بما هو ممكن من خيوط المشهد، سعيا إلى احتواء التحولات وهضمها، والمساهمة في ضبط مساراتها، تفاعلا مع توجهات شبيهة تقريبا على الجانب الآخر من الأطلسي.

وقد تضافرت مؤشِّرات على هذه الانعطافة، منها إعادة إنتاج فكرة “الجوار الأوروبي” من خلال مشروع “سياسة الجوار الجديدة” التي أطلقتها في ربيع 2011 كاثرين أشتون ممثلة العلاقات الخارجية الأوروبية.

وتمّ تغليف المشروع بعبارة زاهية هي “الشراكة الجديدة من أجل الديمقراطية والازدهار المتبادل في جنوب المتوسط”.

وقد عبر كبار مسؤولي أوروبا عن اهتمامات مماثلة، من قبيل وزير الخارجية الفرنسي ألان جوبيه بقوله: “على أوروبا، وأبعد من عملية الانتقال الديمقراطية التي يجب دعمها، تشجيع انبثاق منطقة استقرار وازدهار في جوارها الجنوبي المباشر” (مداخلة برلمانية، 30 مارس/آذار 2011).

وعرض نظيره اﻷلماني غيدو فسترفيله على مصر “شراكة من أجل التحول الديمقراطي، بهدف المساهمة في تعزيز بناء نظام ديمقراطي وهياكل دولة القانون من خلال مساعدات محددة على قاعدة من الندية والشراكة، ودعم المجتمع المدني والمساهمة في التقدم الاقتصادي والاجتماعي” (نشرة الخارجية الألمانية، أبريل/نيسان 2011).

وتكرّرت مثل هذه المواقف من كبار المسؤولين في دول أوروبية عدّة تقدّمتها بريطانيا، ركّزت على الحاجة الاقتصادية لبلدان التحوّل.

وفي خطوة ذات مغزى، أُزيحت وزيرة الخارجية الفرنسية المتعجرفة ميشيل أليو ماري من موقعها، وهي التي لم تبخل على الجمهور بتفسيرات مضلِّلة للمشهد الثوري في تونس.

وقد لخص ألان جوبيه هذا الاستدراك في سياسة بلاده وسعي باريس للاضطلاع بدور أكثر حضورا في التفاعل مع التطورات العربية، أثناء تسلّمه الوزارة من سابقته أليو ماري مطلع مارس/آذار 2011 بقوله: “بالتأكيد ما يجري اليوم في جنوب المتوسط يُغَيِّر كليّاً المُعطَى الموجود، ومن واجبنا التفكير به واستعادة المبادرة. هذه ستكون واحدة من طموحاتنا التي تحظى بالأولوية”.

وسرعان ما اتجهت سياسة باريس من الترقّب والتريّث في التعامل مع ثورة تونس إلى محاولة الاستدراك، ثمّ رفع لواء العمل العسكري في ليبيا والتفاعل السريع مع التطوّرات السورية في سنتها الأولى.

لقد جاء مسار الأحداث العربي في ليبيا واليمن وسوريا ممتدا ومأزوما، بما أعان الأوروبيين على ترتيب أوراقهم من جديد.

فقد أتاحت التطوّرات الليبية فرصة التدخّل الأوروبي المباشر في المشهد العربي المتحرّك، فثورة الليبيين وجدت نفسها أمام استحقاق العسكرة الحتمي، وكانت الجماهير المنتفضة بلا غطاء دفاعي يٌذكَر.

إنها ليبيا التي توجّب حسم الأمر فيها سريعا، في المنظور الأوروبي التقليدي الذي يرى فيها حقل زيت وفرصا استثمارية ورقعة إستراتيجية ممتدة ونافذة هجرة أفريقية عريضة إلى شمال المتوسط يتوجب سدها.

ولكنّ نفط سوريا الشحيح لا يغوي بالإقدام، والأهمّ أنّ حسابات المحيط الإقليمي السوري تفرض الإحجام بما يراعي الرقعة الممتدة بمساحة فلسطين المحتلة.

ومع ذلك، ظلت العواصم الأوروبية مقصدا للوفود السورية الباحثة عن دعم موقف الثورة، وهو ما أعان الأوروبيين على إعادة تدعيم نفوذهم في المنطقة، أسوة بصولاتهم وجولاتهم مع أطراف المشهد اليمني العالق مع ثورة غير مكتملة وبقايا نظام متهاو.

مياهٌ كثيرة جرت في وادي النيل من بعد، حتى واقعة الانقلاب التي قررت أوروبا غض الطرف عنها، فالوجهة العامّة في عواصم القرار الأوروبي محدّدة بوضوح من خلال الإرادة السياسية التي تماسكت في تمرير الواقعة والتسليم بمُخرجاتها.

من المرجّح أنّ راسمي الإستراتيجيات في أوروبا يفهمون معنى الإطاحة بالديمقراطية في بلد كبير ومحوري في الجوار الجنوبي، فهو بشارة للمستبدِّين والطغاة في كلِّ مكان، ويمثل نموذجا سيئا يهدِّد إحلال الديمقراطية وإنعاش الإصلاح في دول عربية وأفريقية.

والأهم في هذا، أنّ اندفاع الدبابات في ميادين القاهرة يُسدِل الستار على احتفالية “الربيع العربي” التي غمرها الاستبشار بالحرية والديمقراطية وكرامة المواطنين وإنجاز التنمية الشاملة.

لم تصدر مواقف أوروبية تُذكَر ضد الانقلاب العسكري على الديمقراطية سوى الصمت على ما يحدث أو بعض التعبيرات الخجولة التي لا ترقى إلى مستوى الواقعة.

ولا يجهل صانعو السياسات الخارجية مغزى تراخيهم، الذي يفهمه الاستبداد العسكري الصاعد ضوءًا أخضر للتمادي في فرض الأمر الواقع وتنفيذ “حلول فيزيائية” على نحو خاطف، كما جرى صبيحة ذلك الأربعاء في ميدان اسمه رابعة.

أبصر صانعو القرار الخارجي كارثة ملطّخة بالدم، متوقّعة سلفاً، كان يمكن وقفها أو عرقلتها بقليل من الشجاعة الأدبية والمواقف المبدئية.

كان يسعهم إطلاق كلمات متماسكة، قطعية الدلالة في التحذير الجاد، تتكفّل مسبقاً بإيقاف العجلة المندفعة لدوس الديمقراطية وسحق الجماهير في الميادين، لكنّ أوروبا لم تفعل، لأنها لا تستطيع، أو لأنها لا تريد، أو للسببيْن معا.

إن صحّ القول بأنّ أوروبا، أو بعضها، لم تشترك في رسم مشهد الانقلاب على العهد الديمقراطي العربي، فإنها على الأقل لم تحرِّك عربة الإطفاء المُتاحة لإخماد الحريق.

والمُذهل أنّ فئات الصفوة الأوروبية، سياسة وثقافة وإعلاما، لم تسجل حضورا يُذكَر في كل ما يجري، وأنّ قوى المجتمع المدني الأوروبية لم ترفع صوتا مسموعا حتى الآن أو يبعثها الحسّ النقدي على التساؤل عن مصير “الشراكة من أجل الديمقراطية والازدهار”، مع استثناءات موضعية يأتي في صميمها مسلمو أوروبا وحقوقيّون يواصلون جهودهم المدنية ومظاهراتهم بلا هوادة.

والنتيجة التي لا تُمحَى من ذاكرة الشعوب، أنّ أوروبا خذلت التحوّل الديمقراطي العربي في لحظة الحقيقة، ولم ترفع صوتها أو تستخدم نفوذها لوقف الانقلابات التي تعيد إنتاج نصف قرن من الطغيان. أمّا التباكي بالوقوف “في الوسط” بين مناصرة الديمقراطية ونقيضها، فهو تواطؤ آثِم لا يمكن تبريره.

بعد سنتين أو ثلاث من اندفاع الشعوب للانعتاق من حقبة الاستبداد، فقدت الحفاوة الرسمية الأوروبية بالربيع العربي مصداقيتها، وتأكّد مرّة أخرى أنّ تقديرات راسمي المصالح وموجِّهي سياسات الأمن القومي هي التي تحدِّد وجهة السياسة الخارجية، وليس التلاعب اللفظي بشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان.

صفحة جديدة تُضاف اليوم إلى ذاكرة العرب بعد سحق ديمقراطية الجزائر وخنق ديمقراطية فلسطين.

تنكّرت أوروبا سريعاً للربيع العربي، ولم تصمد مقولاتها الجميلة

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات