الأربعاء 14/مايو/2025

المصريون والفلسطينيون مرة ثانية

ساري عرابي
كان يفترض أن تكون هذه المقالة متممة للمقالة السابقة (المصريون وجذور الكراهية للفلسطينيين)، بأفكار أخرى إضافية، إلا أن المقالة السابقة أثارت بعض الاعتراض والالتباس، كما وجدت موافقة وتأييدًا، وهو ما يستدعي بعض التوضيح، في سياق هذه الإضافة الجديدة.

ما الذي كانت تود الوصول إليه المقالة السابقة؟

لم يتح للشعوب العربية أن تمضي في سيرورة تطور ذاتي طبيعي، وإنما قطع الاستعمار مسارها، ثم أقحم على وعيها نموذجًا لم تعرفه في تاريخها، وهو نموذج الدولة القطرية، الذي قادته من بعد الاستعمار المباشر نخب ارتبطت مصالحها بالاستعمار من ناحية، وباستمرار نموذج الدولة القطرية من ناحية أخرى، وخلق مبررات استمراره، وسياساته المفارقة للوعي العربي الجمعي.

فانقطعت السيرورة الذاتية للأمة العربية، وشعوبها، وحرمت من أن تطور نموذجها الخاص بها، وفرض عليها هذا النموذج الغربي، فلم تُختبر شعوبنا في سياق تجربة ذاتية طبيعية، كي نتبين على وجه اليقين علاتها الذاتية الطبيعية، من علاتها الناتجة عن هذا المسار القهري الذي وضعت فيه رغمًا عنها، فصار منطقيًا جدًا أن ترد عيوبنا وعلاتنا كشعوب عربية إلى هذا المسار، ابتداء من مرحلة انهيار الدولة العثمانية وتشظيها، ثم مرحلة الاستعمار، ثم مرحلة دولة الاستبداد.

لكن في كل الأحوال، أوجد هذا المسار القهري مناطق مشوهة واسعة في وعي شعوبنا، ومناطق شقاء قاهرة، وأخلاقًا مريضة، وبالضرورة لم يكن متاحًا تحسس هذه التشوهات بعمق، وعلاج تلك الأمراض، في ظل الاستبداد، والذي ما إن انزاح عن صدر هذه الشعوب، حتى انفجرت هذه الأمراض والعلل في الوعي والأخلاق والسلوك، وأكدت أن الأفكار الرومانسية عن الشعوب تصادم منطق الأشياء، فلا بد وأن تعيا الشعوب وتمرض في مثل هذا المسار القهري، بل إن تقادم الزمن على أي مجموعة بشرية يترك عميقًا في وعي وتصورات وأخلاق هذه الشعوب، وهذه القضية لا ينبغي أن توجب التدليل والبرهان.

وهذا لا يعني؛ أن المرض أصيل في الشعوب العربية، ولازم لجيناتها كما يتصور بعض العرب أحيانًا بضغط من الهزيمة الحضارية في مواجهة الغرب المستعمر، مع أن طبيعة الاجتماع الإنساني تتأسس على نحو يقبل العلل والأمراض، كما يتهيأ لمزيد من الرقي والتطور، بحسب الظروف التي تعبرها مسيرة الشعوب، كما الفرد الإنسان الواحد، فكيف حينما تجبر أمتنا على هذا المسار؟!

حاولت المقالة السابقة؛ القول إن بعض التصورات الزائفة الرائجة عن الفلسطينيين في مصر، لها دوافع وأسباب مختلفة، منها طبيعة الوعي المصري بذاته، وبمحيطه والعالم، والذي ينتج مركزية مصرية متضخمة، وحاولت المقالة أن تدلل على ذلك باختصار من خلال عرض المسار الذي فرض على المصريين، وفي سياق عربي أيضًا، مؤسس على الرؤية التي جرى عرض جوانب منها منذ بداية هذه المقالة.

الأمر ليس خاصًا بالمصريين وحدهم إذن، مع وجود خصوصيات للشعوب العربية بطبيعة الحال، بيد لأن الحديث قصد موجة الكراهية التي أنتجتها أوساط في الساحة المصرية ضد الفلسطينيين في سياق الكيد السياسي ضد جماعة الإخوان المسلمين والرئيس مرسي، تناول الحديث الحالة المصرية، بأسلوب اتسم ببعض ألفاظ التعميم، ولغة وصفت بالقاسية، وهو ما دعا بعض الأصدقاء الفضلاء للاعتراض وإبداء الملاحظات، وهو ما تطلب مزيدًا من التوضيح بنفي التعميم، ورد الكلام المجمل إلى المفصل، وألفاظ التعميم إلى ألفاظ القصر والحصر.

وإن كان هذا غير كاف، فإن هذه المقالة تسقط كل ألفاظ التعميم، وتعتذر عما ظهر من حدة سجالية في المقالة السابقة، وهي فرصة للتأكيد على أهمية الحوارات في ترشيد الأفكار وتصحيح التصورات، وبالتأكيد فإن بعض الأصدقاء الذين اعترضوا علي أعرف مني بمصر وأهلها، وأنا سجين مدينة رام الله ومحروم من السفر وملاقاة الناس في هذا العالم.

إذن، التصور بأن عيوب وأمراض الشعوب سطحية تمس القشرة ولا تنفذ إلى العمق، خاصة بعد كل هذا القهر الطويل الذي فرض عليها، يبدو شديد الرومانسية، وأكثر منه رومانسية التصور بأنه وبمجرد زوال الاستبداد، تشفى الشعوب من أمراضها تلقائيًا، وإذا لم تشف فإن هذا البعض الرومانسي يحيل المشكلة إلى النخب والطلائع، بدلًا من البحث في المشكلة في كل الأماكن الممكنة، وبكل الوضوح والصراحة والتحديد، وبعيدًا عن لغة مجاملات الشعوب التي راجت في حقبة ما قبل الثورات في سياق تحريض تلك الشعوب على أنظمتها، وهي بالضرورة لغة، وبصرف النظر عن دقتها، لم تعد صالحة في مرحلة ما بعد الثورات، إذ ينبغي الانصراف لعلاج كل المشكلات، وبخطاب ثوري جديد.

المقصود؛ وبصرف النظر عن دقة كل معطيات هذا التحليل، في هذه المقالة والتي سبقتها، وعن الاتفاق من عدمه على عمق وسعة هذه البنية الذهنية، فإنه لا ينبغي الاختلاف على ضرورة البدء في الثورة على كل البنية الثقافية السابقة، والتأسيس لأنموذج خاص بنا، كشعوب عربية، يقطع مع سيرورة القهر التي فرضها علينا المستعمر وحقبة الاستبداد، والبحث في كل مناطق التشوه التي خلقت في وعينا، ومن ثم علاجها.

ولأن أصل الموضوع متعلق بما يتعرض له الفلسطينيون من قبل بعض المصريين، وجرى تحليله بأداة تحليلية تروم العمق، والإحاطة بالرحم المولد كله لهذه الظاهرة، أي ظاهرة العداء الفجّ للفلسطينيين من قبل بعض المصريين، ونُظر إليه في سياق عربي أوسع، وهو سياق الدولة القطرية التي أنتجها المستعمر وسلّمها للاستبداد المرتبط به، كان ينبغي إعادة النظر في هذا الأنموذج كله، والتساؤل إن كانت الحركة الإسلامية، وهي المرشح الوحيد لأسباب متعددة، لإنجاح أي أنموذج جديد متصل بعمق وعينا الحضاري والثقافي الأصيل، تملك الإرادة والرؤية لبناء هذا النموذج، وإن كانت لن تتورط إلى حد الغرق في البنية القائمة، سياسيًا وثقافيًا واقتصاديًا؟!

هذا الأنموذج ينبغي بالضرورة أن يعيد النظر في نموذج الدولة القطرية الفاشل، وتنظيف الوعي العربي من كل ما ترسب فيه من آثار وجود هذا الأنموذج بقيادة أنظمة استفادت من استمرار هذا الأنموذج، وعملت على إثارة الخصومات العربية البينية، وتركيز هويات خاصة للشعوب العربية لا معنى لها، مثل الهويات المتعددة في منطقة الخليج مثلًا!

وبالتالي من الضروري إعادة صياغة الوعي بالهوية الخاصة لكل شعب عربي، طالما أن الأنموذج البديل الذي ينبغي الوصول إليه هو الدولة الأمة، لا الدولة القطرية، أي دولة الأمة العربية الإسلامية، وهو الأنموذج الوحيد القادر على النهوض بهذه الشعوب، ومزاحمة الأمم في المشهد الحضاري الكوني، وأخذ مكانها في الاستخلاف في الأرض، والتخلص النهائي من الاستعمار، وتحقيق الكفاية الاقتصادية الذاتية، وبالضرورة تحرير فلسطين وتفكيك الكيان الصهيوني والقدرة على استيعاب آثار زوال هذا الكيان.

هل يعمل الإسلاميون على ذلك؟ هل تجري مصارحة الشعوب بأمراضها وعللها، ومن ثم العمل على معالجة تلك الأمراض والعلل، بما في ذلك بعض التصورات المفرطة في التشوه عن الذات والآخرين، خاصة طريقة الإحساس بالهوية الوطنية الخاصة والتعبير عنها، والتي تبدو مصطنعة ومبالغًا فيها؟

وهل يجري البحث عميقًا في البني الذهنية التي تركتها أنظمة الاستبداد لتفكيكها، بصرف النظر عن اتفاقنا من عدمه على سعتها؟! مثلًا كيف تصرفت كل مكونات الحركة الإسلامية تجاه حملة الكراهية التي شنتها بعض القوى والأوساط المصرية ضد الفلسطينيين؟! هل كانت صريحة ومباشرة وقوية ومكثفة وواسعة في الرد على هذه الحملة؟ وكيف تصرفت الجهات الرسمية التي كان ينسب إليها كثير من الروايات الأسطورية حول دور حماس في الأحداث المصرية؟!

وإذا كانت الحركة الإسلامية المصرية، والإخوان منهم على وجوه الخصوص، لديهم ارتباط وجداني وثقافي عميق بفلسطين، فهل تهتم بجعل الموضوع الفلسطيني على رأس أولوياتها في نشاطها الثقافي والدعوي الخارجي؟ أي نشاطها المتجاوز لأطرها التنظيمية إلى عموم الساحة المصرية؟! بمعنى أن مجرد الشعور الذاتي بالارتباط العميق بفلسطين غير كاف، ولا ينبغي أن تكون الحركة الإسلامية كمن يحدث نفسه بهذا الخصوص.

ما ذكر يخص كل الشعوب العربية وطلائعها السياسية والتنويرية، مع خصوصيات، تبدو فيها مصر الأكثر أهمية، لأسباب، تتعلق بمركزيتها، التي سبق القول في المقالة السابقة بأنها مبررة، رغم ما طرأ فيها من خلل عميق، وعليها من تشوهات، فمصر تكاد تكون الدولة الوطنية العربية الوحيدة ذات المعنى، منذ أن أسسها محمد علي، بثروة بشرية هائلة، وموقع جغرافي فريد، وعناصر قيادية طبيعية، تؤهل مصر أن تكون رأس النظام السياسي العربي.

وقد أعادت مصر تصدير الثقافة العربية إلى العرب، من بعد أن احتضنت كفاءات عربية، خاصة من منطقة الشام الكبرى، ساهمت في تشكيل البدايات الثقافية والفنية في مصر، فلكل عربي حظ في مصر، في أي مجال، ثقافي، أو سياسي، أو ديني، أو فكري..

ومصرُ قبل التحافها بالأدوات الأمريكية في المنطقة كانت قائدة النظام السياسي العربي بالفعل، بل وأسهمت ماليًا في تأسيس الجامعة العربية، ودعم دول عربية كانت قد استقلت حديثًا عن الاستعمار المباشر، وهي اليوم البلد الأهم في بلاد الثورات العربية، والأقدر على خلق النموذج العربي الإسلامي الخالص، وإنجازه بإذن الله، بما في ذلك تحرير فلسطين وهزيمة الكيان الصهيوني.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

المقاومة تقصف عسقلان وأسدود وغلاف غزة

المقاومة تقصف عسقلان وأسدود وغلاف غزة

غزة – المركز الفلسطيني للإعلام تبنت " سرايا القدس" الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، مساء اليوم، قصف اسدود وعسقلان ومستوطنات غلاف غزة برشقات...