الثلاثاء 12/نوفمبر/2024

الجعبري أوفى بوعده لرفاقه الأسرى وارتقى شهيدًا

الجعبري أوفى بوعده لرفاقه الأسرى وارتقى شهيدًا

لم يكن ظهور أحمد الجعبري، القيادي البارز في “كتائب القسام”، الذراع العسكري لحركة المقاومة الإسلامية “حماس”، بشكل علني خلال تسليم الجندي الصهيوني جلعاد شاليط للمخابرات المصرية يوم 18 تشرين أول (أكتوبر) 2011 ظهورًا عبثيًّا، وهو يعرف أن الاحتلال لن يتركه، لا سيما وهو يضعه على رأس المطلوبين لها.

إلا أن ظهوره هذا كان بمثابة رسالة موجهة للأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال أنه أوفى بالوعد الذي قطعه على نفسه، وهو ويودعهم قبل الإفراج عنه من تلك السجون عام 1995م؛ ليؤكد لهم أن هذا الوعد لم يكن وعدًا في الهواء بل كان وعدًا حقيقيًّا وصادقًا، قطعه على نفسه، وسعى لتحقيقه، لإدراكه أكثر من غيره المعاناة الحقيقية التي يعيشها الأسرى في سجون الاحتلال، وأنهم على رأس أولوياتهم.

وظهر الجعبري فور وصول السيارة التي كانت تقل شاليط قادمًا من مخبئه على يسار السيارة، وحينما ترجل شاليط من السيارة اتجه الجعبري الذي كان يرتدي قميصًا سماويًّا إلى يمين شاليط وضابط المخابرات المصرية على يساره يمسكه بيده. وكان لهذا المشهد حينها أثر كبير على الأسرى داخل سجون الاحتلال، الذين يعرفون الجعبري جيدًا بنظارته الثقيلة لضعف نظره -والتي يبدو أنه خلعها بعدما أجرى عملية لعينيه في مصر-، فهذا الرجل عاش مع الأسرى ثلاثة عشر عامًا كاملة، وفارقهم قبل ستة عشر عامًا بعد الإفراج عنه بعدما أتم مدة محكوميته، متعهدًا لهم أن لا يبقى أي أسيرٍ منهم في داخل هذه السجون.

أدرك الشهيد الجعبري، بعد أن أمضى ثلاثة عشر عامًا قضاها في سجون الاحتلال (من عام 1982- 1995) أن تحقيق هذا الوعد ليس سهلاً ولكنه في الوقت ذاته ليس مستحيلاً، فعمل على تحقيق ذلك من خلال أسر جنود الاحتلال، وقد كان له ذلك بعد عشرة أعوام من الإفراج عنه، وذلك حينما تمكنت “كتائب القسام” وفصيلان آخران من أسر الجندي الصهيوني جلعاد شاليط في عملية فدائية نفذت صيف 2006م داخل أحد المواقع العسكرية للاحتلال جنوب قطاع غزة.

وتعود أصول عائلة الجعبري، الذي استشهد بغارة صهيونية الأربعاء 14 تشرين ثاني (نوفمبر) 2012 عن (51 عاما) إلى مدينة الخليل جنوب الضفة الغربية المحتلة، التي انتقلت إلى قطاع غزة مطلع القرن الماضي، حيث ترعرع نجلها أحمد في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، واعتقل حينما كان يبلغ من العمر 18 عامًا بتهمة المشاركة في خلية مسلحة تابعة لحركة “فتح” ومقاومة الاحتلال.

أصدرت محكمة صهيونية حكمًا على الجعبري ثلاث عشرة سنة، وهو الذي تأثر كثيرًا خلال اعتقاله بشخصية وفكر الشيخ صلاح شحادة القائد العام لكتائب القسام (اغتيل في صيف 2002) رغم الاختلاف التنظيمي بينهما آنذاك، حيث قاد الجعبري بعد ذلك في زنزانته وستة من كوادر حركة “فتح” تمردًا على قيادة الحركة، سعيًا منه للانتقال إلى الحركة الإسلامية، وهو الأمر الذي كان محظورًا على الأسرى “التحويل من تنظيم لآخر”، لاسيما وأن تنظيم الحركة الإسلامية في السجون كان في بدايته، وكان فتيًّا.
رفضت حركة “فتح” بداية الأمر رفضًا قاطعًا انتقال الجعبري ورفاقه إلى الحركة الإسلامية، بينما أصر الجعبري على مطلبه، وقد رفع الأمر إلى قيادة الحركة في الخارج، والتي وافقت في النهاية أمام إصرار الجعبري ورفاقه على الانتقال.

مرحلة جديدة 

 انتقال الجعبري إلى صفوف الحركة الإسلامية داخل السجون كان مرحلة جديدة في حياة هذا الرجل، حيث تشكلت شخصيته الإسلامية داخل السجن، لاسيما بعد لقائه وعيشه مع معظم قادتها التاريخيين.

وحسب الذين عايشوا الجعبري في المعتقل، وتحدثوا لـ “قدس برس”، فإنه كان يتمتع بشخصية قوية وصاحب فكر وثقافة واسعة وشاملة للإسلام وللقضية الفلسطينية، وكان يجيد اللغة العبرية بطلاقة، وصاحب علاقات كبيرة ووثيقة مع كافة التنظيمات الفلسطينية المختلفة بما فيها حركة “فتح” التي انفصل عنها.

كرّس الجعبري وقته خلال اعتقاله في السجون المركزية في السنوات التسع الأولى من اعتقاله للاطلاع وخدمة المعتقلين، وقاد معهم عددًا من الإضرابات، والتي انتزعوا فيها الكثير من الإنجازات، وكان في كثير من الأحيان يمثل الأسرى أمام إدارة السجن التي كانت تحترمه كثيرًا وتهابه كذلك لمواقفه القوية والحازمة.

تأهيل الأسير 

كان لانتقال الجعبري عام 1991م إلى سجن النقب أهمية كبرى في حياته، لاسيما وأنه يلتقي في هذا السجن بمئات المعتقلين يوميًّا، والذين كانوا ينتقلون بين خيامهم بخلاف السجون المركزية، وحصر معرفته بعدد من المعتقلين في الزنازين والغرف التي يعتقلون فيها، حيث أصبح بعد ذلك ممثلاً للمعتقلين أمام إدارة السجن.

وقال أحد الذين التقوا الجعبري في سجن النقب لوكالة “قدس برس” إن هذا الرجل عمل برفقة عددٍ من قادة الحركة الذين تواجدوا في هذا السجن ومن بينهم الدكتور إبراهيم المقادمة (اغتيل في ربيع 2003) على تجهيز عناصر حركة “حماس” للانضمام إلى الأجهزة المختلفة في الحركة بعد خروجهم من المعتقل، لا سيما الجهاز العسكري الذي يحمل اسم “كتائب عز الدين كتائب القسام” وذلك من خلال دورات أمنية وعسكرية ودينية مكثفة تؤهل الشاب للانخراط في العمل التنظيمي فور خروجه من المعتقل.

اتفاق أوسلو

وفي مطلع عام 1994م؛ قررت سلطات الاحتلال الإفراج عن معتقلين فلسطينيين كبادرة حسن نية تجاه منظمة التحرير الفلسطينية بعد توقيع اتفاقية أوسلو، شريطة أن يوقع المعتقل على تعهد قبل الإفراج عنه بعدم “ممارسة الإرهاب والمقاومة” والالتزام بالاتفاقيات، إلا أن الجعبري رفض التوقيع مقابل الإفراج عنه، وقال آنذاك “أمضيت في السجن 11 عامًا، وسأكمل العامين الباقين ولا يقال لي يوما إن اتفاقية أوسلو هي التي أخرجتك من المعتقل، وإنك وقعت على تعهد بعد ممارسة المقاومة، فلماذا نحن خلقنا واعتقلنا؟”.

ودلل هذا الموقف على مدى تمسكه بالنهج الذي يعمل من خلاله للمقاومة، ويقينه أنه سيخرج يومًا، وذلك على الرغم من ضغط قادة حركة “حماس” عليه من أجل التوقيع والخروج، لأن حياته عامين خارج السجن أفضل له من أن يبقى داخله، حسب رؤيتهم، إلا أن هذه الضغوط لم تثنه عن موقفه ورفض التوقيع وبقي في السجن.

خرج الجعبري من المعتقل عام 1995م، وبعد عام تقريبًا من خروجه تعرضت حركته لضربة قوية من قبل السلطة الفلسطينية، التي اعتقلت المئات من عناصرها وأغلقت مؤسساتها وجمعياتها، حيث عمل جاهدًا آنذاك على عودة الحياة للحركة من خلال تأسيسه لأول مكتب إعلامي للحركة في الداخل، والذي عرف آنذاك باسم “مكتب الميناء” كون موقعه كان بالقرب من ميناء غزة القديم، وكذلك تأسيس جمعية النور لرعاية الأسرى ومتابعته لملف الأسرى بالكامل ومشاركته في كافة فعاليات أهالي الأسرى.

وبعد عمل دؤوب في خدمة الأسرى والمجال الإعلامي اعتقلت السلطة الفلسطينية الجعبري عام 1998م بتهمة التنسيق ما بين القيادة السياسية والعسكرية لحركة “حماس”، وذلك قبل اندلاع انتفاضة الأقصى في أواخر عام 2000م، حيث تسلم ملف الأسرى في حركة “حماس” خلفه الشهيد رياض أبو زيد (اغتيل في 2003).

التفرغ للعمل العسكري

استلم الجعبري ملف الأسرى، حيث كان نشيطًا في هذا مجال بشكل كبير، ثم جعل يتفرغ للعمل في المجال العسكري لاسيما بعد الإفراج عن الشيخ صلاح شحادة من سجون الاحتلال عام 2000م، والذي كانت تربطه به علاقة قوية داخل السجن، ولاحقًا أصبحت علاقة نسب ومصاهرة.

 وكان للجعبري دور كبير في قيادة العمل العسكري في انتفاضة الأقصى وتدرج في قيادة كتائب “القسام” ولعب دورًا لوجستيًّا كبيرًا، لاسيما بعد استشهاد قائدها العام صلاح شحادة، وإصابة أحد أبرز قادتها محمد ضيف الذي نجا من عدة عمليات اغتيال، أدت إحداها إلى إصابته بجراح خطيرة بحسب مقربين منه والذين أخفوا نوع إصابته، حيث عمل الجعبري على زيادة تدريب وتسليح كتائب القسام بشكل كبير، وحوّلها من مجموعات مسلحة إلى جيش شبه نظامي يتكون من ألوية وسرايا.

وبرز الجعبري بشكل كبير بعد نجاته من عملية اغتيال في السابع من آب (أغسطس) من عام 2004م حينما قصفت طائرة صهيونية منزل عائلته في حي الشجاعية شرق مدينة غزة فقتلت نجله محمد (23 عامًا) وشقيقه فتحي (38 عامًا) وصهره وعددًا من أقاربه ومرافقه علاء الشريف (27 عامًا)، إلا أنه أصيب بجراح طفيفة.

وبعد هذه العملية اختفى الجعبري عن الأنظار تمامًا لمدة عام تقريبًا، حيث ظهر بعد ذلك في إحدى الاعتصامات لأهالي الأسرى في مقر الصليب الأحمر بغزة، لكن بعيدًا عن وسائل الإعلام.

ظل الجعبري بعيدًا عن وسائل الإعلام، حيث ظهر في برنامج وثائقي واحد وتحدث عن نفسه وعن الجهاز العسكري لحركة “حماس”، إلا أنه بعد ذلك لم يصدر عنه أي تصريح وتوارى عن الأنظار بالكامل.

أسر شاليط 

كثر الحديث عن الجعبري بعد أسر الجندي  جلعاد شاليط في 25 حزيران (يونيو) 2006 وبدأت المصادر الصهيونية تحمله المسؤولية عن ذلك دون أن يظهر هو في أي مكان أو يصدر عنه أي تصريح.

وتحدثت الدولة العبرية عن أنها أخفقت خلال الحرب على غزة قبل عامين من تصفية الجعبري، وذلك على الرغم من رصده في أكثر من مكان حسب ادعائها، وأنها على يقين أنه الرجل الوحيد الذي كان يتحكم بمصير شاليط.

وأضاف مقربون من الجعبري إنه هو من كان يقود المفاوضات غير المباشرة حول شاليط بالإضافة إلى ثلاثة قادة آخرين، وأنه كان حاسمًا في ذلك الأمر ولا تؤثر عليه أي ضغوط خارجية، وكان يدرك طبيعة القائمة التي وضعها للأسرى والتي من المقرر أن يفرج عنهم بموجبها وتنوعها، بحيث تشمل الأسرى القدامى وكذلك قادة الفصائل والنساء والأطفال والمرضى ولكل اسم في هذه القائمة معنى عند هذا الرجل.

وحسب مراقبين فإن “حماس” تمكنت خلال مفاوضاتها غير المباشرة أن تفرض شروطها على الجانب الصهيوني وتم كسر الكثير من المعايير، وأن المفاوض الفلسطيني يتمتع بخبرة وصبر كبير ويعرف ماذا يريد وليس بالسهل الضغط عليه، لاسيما بعدما فشل الاحتلال باستعادة شاليط بالقوة.

“كبير المفاوضين”

وتدرك الدولة العبرية أكثر من غيرها مدى صعوبة المفاوضات في قضية شاليط، وذلك لعلمها الجيد بكبير المفاوضين الفلسطينيين في هذه الصفقة (الجعبري) كونه أمضى في سجونها 13 عامًا، وكان عنيدًا جدًّا في انتزاع حقوق الأسرى خلال المفاوضات مع إدارة السجون، حيث كان صعبًا جدًّا في التفاوض على “ملعقة” يطلب دخولها للأسير وهو معتقل، ويرفض التنازل عنها فما بالك حينما يتفاوض على حرية أسرى أمضوا سنوات في سجون الاحتلال وبيده جنديٌّ صهيوني وهو خارج المعتقل وتحت إمرته الآلاف من المقاتلين المدربين والمجهزين جيدًا، بحسب المقربين منه.

وأضاف أحد المقربين من القيادي في “القسام” إنه منذ أسر شاليط، والجعبري لديه رؤية حول التعاطي معه والثمن الذي يجب عن تدفعه سلطات الاحتلال فكانت القائمة التي قدمتها حركة “حماس” ويتمسك بكل اسم فيها لإدراكه أنه إذا لم يفرج عنهم فيها؛ فإنه قد لا يفرج عنهم إلا جثثًا هامدة، وهو كذلك يصر على تنفيذ وعده لزملائه الأسرى الذي قطعه على نفسه قبل ثلاثة عشر عامًا حينما أفرج عنه من سجون الاحتلال.

ورفض الجعبري قبل عام تقريبًا الحديث عن ما يدور في المفاوضات، مكتفيًا برسالة وجهها للأسرى قال فيها: “اطمئنوا.. قضيتكم في يدٍ أمينةٍ ومفاوض عنيدٍ وصلبٍ لا تؤثر عليه أي ضغوط مهما كانت”.

بطل “الوهم المتبدد” يرتقي شهيدًا

ارتقى أحمد الجعبري (أبو محمد) شهيدا، في غارة نفذتها طائرة صهيونية اليوم الأربعاء 14 تشرين ثاني (نوفمبر) 2012، بعد سنوات طويلة من مطاردته للاحتلال ومطاردة الاحتلال له، صاغ مل

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات