طعم مختلف للشهادة

“ذكرى الأربعين” مناسبة احتفالية، أو فلنقل مناسبة إحيائية عندما يكون للاحتفال معنى الفرح، وللإحياء معنى الاستذكار للفرح أو الحزن في تداخل وتزامن عجيبين لا يعرفهما إلا من ابتلي باحتلال عنصري لا مكان للرحمة لديه. هكذا هي عند العرب الذين يسميها بعضهم “أربعينية”، وهكذا هي لدى كثيرين غيرهم.
لكن بعض العرب يشهدون حالات إحياء أكثر كثيراً مما يشهدون مظاهر احتفال، بالنظر إلى علاقتهم من قريب أو بعيد بالصراع العربي الصهيوني ومآسيه التي بدأت بالنكبة، ولن تنتهي عند نكبة لكل عائلة أو لكل فرد فيها.
تكاد المآسي تقترب من أن تكون بعدد أبناء الشعب الفلسطيني ومعه كثير من أبناء الشعب العربي. إذا كان في أسرة شاب مطلوب للاحتلال، فأمه وأبوه وكل إخوته وأخواته عرضة للتنكيل على سبيل الانتقام الجماعي.
وفي كل عملية دهم للمنزل يتركونه مثل الوضع العربي تماماً، مخلوطاً حابله بنابله، الزيت على الماء، والعدس على الكاز، والطحين على السكر، والملح على الجرح. كان المفروض أن تكون أربعينية إيهاب الزعانين احتفالاً بمرور أربعين يوماً على زفافه. لكن الزفاف عند أبناء غزة له طعم مختلف، أو معنى مركّب لأشكال الفرح المشوب بالحذر والترقّب. فهو لا يقتصر على كون الابن والبنت قد أصبحا شاباً وصبية، وبالتالي سيتأهلان ويفتحان بيتاً. هذا عند الآخرين الذين يحتفلون أيضاً بزواج الكلاب والقطط والسعادين، لكن في غزة يحتفلون بالابن لأنه نجا من أكثر الظواهر انتشاراً واحتمالاً لدى الفلسطينيين، ألا وهو الموت.
إيهاب الزعانين الذي حمله أقرباؤه وأصدقاؤه على أكتافهم عريساً قبل أربعين يوماً، وكانوا يستعدون للاحتفال بذكرى مرور أربعين يوماً على زواجه، وجدوا أنفسهم يحملونه على الأكتاف من جديد في أربعينية زفافه، لكن شهيداً.
معظم الفلسطينيين، وبخاصة في غزة، لا وقت للشاب المتزوج للتو، أن يجلس في البيت طويلاً مثل عرائس بقية خلق الله. لا يفكّر في شهر عسل ما دام منزله، إن كان له منزل، خالياً من الخبز والبصل. ليس غريباً إذاً، أن يخرج إيهاب في ذكرى أربعينيته برفقة شقيقه وصديقهما، كعادتهم يومياً، للبحث عن لقمة العيش. لكن اللقمة وحدها ليست ضمانة لعيش الفلسطيني والعربي، فالاحتلال يتربّص بهما وبحقهما في الحياة حتى تحت نيره البغيض، وهو الاحتلال الأشد استسهالاً للقتل والتدمير، والأكثر “إبداعاً” في فنون الجريمة.
ومثلما وظّف الطائرة المخصصة لقصف الدبابات والتحصينات والقواعد العسكرية، في قصف كرسي متحرّك لإنسان مقعد، وظّف المدفعية المصنوعة لدك الحصون والقلاع، في دك الأجساد المجرّدة من أي حديد، حتى حديد السبانخ.
قضى الأخوان الزعانين شهيدين على الفور وسقط قريبهما طارق جريحاً، لكن الاحتلال الذي لا يروق له أن يرى جريحاً لأنه قد يعود إلى الحياة، منع طواقم الإسعاف من الوصول إليه، فالتحق بقريبيه شهيداً بعدما تمكن من الاتصال بأسرته. والدة الشهيدين لم تستطع إخفاء حزنها الإنساني الذي جرّبته بفقدان شهيد قبلهما، وباتت والدة ثلاثة شهداء وتتساءل بمرارة “هل نحن نربي أبناءنا للموت؟.. ولا تتورّع عن التأكيد أنها جاهزة للقتال ضد الاحتلال، إذ لا تعرف أم طعماً للحياة بعد استشهاد ثلاثة من أبنائها.
لكنها رغم الحزن والألم تقول إنها مستعدة لتقديم أبنائها الأربعة الباقين شهداء. ربما ليس من قبيل المصادفة أن ردد الفلسطينيون للعريس والشهيد الأغنية ذاتها “سبّل عيونه ومد إيده يحنّونه.. غزال صغيّر وكل أهله يحبونه”. ولهذا أيضاً أنشد محمود درويش “.. وأنا والموت وجهان.. تعالي ننتمي للمجزرة”. وها هي غزة تنشد من الآن “أجمل الأمهات التي انتظرت ابنها.. وعاد مستشهداً.. فبكت دمعتين ووردة.. ولم تنزوِ في ثياب الحداد”.
[email protected]
صحيفة الخليج الإماراتية
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

قتلى وجرحى في تفجير مبنى بقوة من لواء غولاني برفح
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام قتل عدد من جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي وأصيب آخرين في رفح، اليوم الخميس، وفق وسائل إعلام إسرائيلية، فيما قالت كتائب...

شهيد وجرحى في سلسلة غارات إسرائيلية على جنوب لبنان
بيروت - المركز الفلسطيني للإعلام استشهد مواطن لبناني وجرح آخرون، في سلسلة غارات شنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على جنوبي لبنان، اليوم الخميس، على ما...

حصيلة الإبادة ترتفع إلى أكثر من 172 شهيدا وجريحا
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أفادت وزارة الصحة بغزة، اليوم الخميس، بأن مستشفيات القطاع استقبلت 106 شهداء، و367 جريحا وذلك خلال 24 الساعة الماضية...

الادعاء الروماني يحيل شكوى ضد جندي إسرائيلي إلى النيابة العسكرية
بوخارست - المركز الفلسطيني للإعلام أعلنت مؤسسة “هند رجب” أن المدعي العام في رومانيا أحال الشكوى التي تقدمت بها المؤسسة ضد جندي إسرائيلي إلى مكتب...

الاحتلال يحول الصحافي الفلسطيني علي السمودي إلى الاعتقال الإداري
رام الله - المركز الفلسطيني للإعلام حوّلت قوات الاحتلال الإسرائيلي، اليوم الخميس، الصحافي الفلسطيني علي السمودي من جنين، شمالي الضفة الغربية،...

“موت ودمار لا يمكن تصوره”.. منظمة دولية تطلق نداءً لوقف النار في غزة
لندن - المركز الفلسطيني للإعلام أطلقت "منظمة أوكسفام الدولية"، نداءً مفتوحًا يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في قطاع غزة، محذّرة من استمرار الكارثة...

شهيد وإصابات برصاص الاحتلال في البلدة القديمة بنابلس
نابلس - المركز الفلسطيني للإعلام استشهد شاب، متأثرا بإصابته برصاص الاحتلال الإسرائيلي، خلال اقتحام البلدة القديمة من مدينة نابلس، شمال الضفة الغربية...