خطاب مرسي في طهران.. ملامح ولادة المشروع العربي!

ثمة مفارقة واضحة واكبت زيارة الرئيس مرسي لطهران للمشاركة في قمة دول عدم الانحياز، إنها ببساطة تتعلق بالموقف من تلك الزيارة، الذي تمثل برفضها والخوف من تداعياتها والتشكيك في نتائجها من قبل شريحة كبيرة من العرب قبل أن تتم، ومن ثم إظهار قدر كبير من الارتياح والثناء على مواقف الرئيس مرسي بعد أن ألقى خطابه في القمة من قبل ذات الجمهور الناقد، إن مفارقة كهذه لهي جديرة بالتحليل والدراسة، والوقوف على دلالاتها، لأنها تعطي الدليل الواضح على أن المكاسب أو المخاسر المترتبة على المشاركة في أي محفل سياسي إقليمي أو دولي لا تتوقف على مجرد المشاركة او عدمها، بل تتوقف على كيفية هذه المشاركة، والعنوان المرفوع فيها، وبغض النظر عن ظرفي المكان والزمان المصاحبين.
كل الذين انتقدوا عزم مرسي على الذهاب لطهران فاتهم الانتباه لهذه الحقيقة، فكانت مواقفهم تعبر عن الوقوع في فخ عدم استيعاب التحولات الحاصلة في الساحة العربية، الأصل أن الإحساس بفرص نجاح التغيير وتوقع حدوثه بل و الثقة بالقدرة على تحقيقه كواقع منظور، ينبغي أن يكون حاضرا كقناعة راسخة تعتمل في أذهان الرواد وذوي النظر، قبل أن تظهر بوادرها الأولى كحقائق على الأرض، لكن ما يثير في واقع الحال أن كثيرا من الناس تقصر بهم مداركهم عن إدراك حقائق التغيير الناجزة، فيحتاجون إلى ما ينعش ذاكرتهم كي يستطيعوا اللحاق بتيار الأحداث الذي يكاد يتجاوزهم، وإلى أن يتم لهم ذلك فإنهم يتصرفون من وحي الظروف السابقة والانطباعات القديمة غير آخذين بالحسبان جملة التحولات التي تعبر عن نفسها بوضوح، ويساعدهم على ذلك أمران، الأول يتمثل بكون هؤلاء الناس(ونحن منهم بالطبع)، إنما هم نتاج للواقع مختل الظروف والموازين، إنه ظرف الانتكاس الاستثنائي إياه، الذي يطبع الأفكار والرؤى بآثار ذات الظرف غير الصحي فتكون كذلك، والثاني يتمثل بكون الأمة التي ينتمون إليها فاقدة للعنوان الجامع الذي يمكن الاهتداء بأبجدياته العامة عند التفاعل مع الآخرين في ميدان السياسة وغيرها.
المعترضون على زيارة مرسي قبل أن تتم تعاملوا مع الموقف كما لو كانت محددات الحراك السياسي محكومة بكون إيران صاحبة مشروع تسعى لدمج الآخرين فيه(وهي كذلك حقيقة)، لكن دون الأخذ بعين الاعتبار أن مرسي سيتصرف من وحي كونه جديرا بطرح مشروعه الخاص هو الآخر، أو أنه لن يقبل أن تكون مشاركته محكومة بالحالة التي مفادها أن المنطقة محكومة بمشاريع عدة ليس من بينها المشروع العربي، الضعاف كما قصار النظر يخافون مشاركة الأقوياء أو الذين يبدون كذلك، لأنهم يفترضون أن مثل هكذا مشاركة يتم استثمارها من قبلهم، فيما يبدو الضعفاء أشياء تدور في الفلك بلا حول ولا قوة أو قدرة على التأثير في مجريات الأحداث، في الوقت الذي يمنحون فيه الآخرين الغطاء لتمرير سياساتهم، ومنحها شرعية الوجود، الفرضية في حد ذاتها صحيحة، ولكن من قال أن هذا الطرف ضعيف وذاك قوي، ما هي مقاييس القوة والضعف التي من الممكن استخدامها لدراسة واقع الدول والشعوب وقياس وزنها، أقوية كانت أم ضعيفة؟
إن صاحب المشروع والرؤية المتكاملة سيكون قويا، وإن لم يكن كذلك لأسباب ظرفية مؤقتة، فلن يكون تابعا لأحد، وبالتالي فهو لا يحجم عن المواجهة والمشاركة، بل يسعى للوصول لكافة المنابر التي تشكل أدوات فاعلة للإفصاح عن المواقف والمشاريع والتوجهات، إن من يحسن تقدير ذاته، ويعي قيمتها ويثق بإمكاناته ويعرف بالضبط من يكون وماذا يريد، لن يجد غضاضة في التطواف على كل المحافل، بل يراها فرصة ينتهزها ليقول لكل الناس هأنذا وهذه رسالتي، وهاكم عنواني، أما الوجلون والمترددون والمعترضون، فإما أنهم لا يعرفون أن الزمان قد دار دورته، وإما أنهم لا يعرفون من هم وماذا يريدون!
إن أبرز ملمح في خطاب مرسي تمثل في وضع لبنات المشروع العربي القادم بثقة وثبات، وهو المشروع الغائب حقيقة عن المزاحمة في ميادين التدافع السياسي منذ عقود طويلة، لا أقول الميدان السياسي الدولي فحسب، وإنما ميدان السياسة الذي يخص عالمنا العربي وقضاياه الملحة قبل ذلك، الاحتجاج على الزيارة، كان تعبيرا عن الشعور بالضياع أمام مشاريع تتصارع في المنطقة العربية في غمرة الغياب القسري للمشروع العربي أكثر منه تعبيرا عن الرؤية السياسية المعتبرة. فقد فوت حال التائهين بين المشاريع السياسية المتزاحمة عليهم الفرصة اللازمة لرؤية الفارق النوعي الذي دشنته الانتفاضات العربية، فلم يفيقوا إلا ومرسي يضعهم بثقة على سكة مشروع آخر لا هو إيراني ولا هو صهيوني أمريكي، إنه المشروع العربي الخالص، فانقلب التذمر إلى رضا والرفض إلى قبول.
من الواضح أنه يتناطح في منطقة المشرق الإسلامي عدة مشاريع عالمية، أو ما يسعى منها لأن يكون عالميا، بيد أن أبرزها تناقضا هما المشروعان الإيراني والصهيوأمريكي، كان يراد للعالم العربي، أن يكون وقودا لهذا التناقض لصالح الثاني دون الأول، وهو ما كان ولم يزل حتى لحظة إفصاح مرسي عن المشروع العربي من قلب طهران، والتي شكلت منعطفا هاما ولحظة فارقة، ينتقل فيها العرب من موقع الأداة التي يتم تسخيرها واستثمارها في ميادين تتصادم فيها مشاريع لا ناقة لهم فيها ولا جمل، فضلا عن تحملهم لفاتورة تكلفة هذا الصراع، أموالا طائلة وموارد طبيعية، ومخاطر وفساد بيئي هائل، إلى الموقع الذي يستطيعون من خلاله تقديم بضاعتهم الذاتية لتنافس الآخرين وتزاحمهم على صوغ المعادلات السياسية وشكل العلاقات الواجب نسجها بين الناس بما يتناسب مع مصالحهم أنفسهم لا مصالح الآخرين.
المشاريع الجديرة بنحت مكان لها على الخارطة الدولية، لا تقوم كاستجابة طارئة لظرف استثنائي، ولا تتشكل وفقا لردات الفعل المتسرعة، التي تحاول وبطريقة تعسفية استباق مسيرة الآخرين المتقدمة لأسباب منطقية جدا، ولا تنبثق من وحي إلحاح المشاعر الجياشة، بل تكون نتاجا طبيعيا لمقدمات عملية صحيحة، ورؤية ناضجة وواضحة ومتوازنة، وإصرار أكيد على التمايز الذي يأخذ بكل أسباب النجاح العملي بعيدا عن التسطيح والبهرجة والعفوية، مرسي لم ينطلق من فراغ ولم يقفز من نقطة الصفر وهو يضع بقوة أساسات المشروع العربي القادم بثقة وقوة إلى المنطقة، وإنما أشاد البناء على الأساس المتوازن الذي دشنته سياسة الإخوان المسلمين منذ عقود طويلة في تعاطيها الذكي مع المشاريع الموجودة، فلم تستعد أصحاب البرامج الأقل تناقضا معها ولم تغلق باب التواصل والحوار ومحاولات إيجاد القاسم المشترك معهم، ، كما لم تتماهَ مع المشاريع المناقضة، ولم تنخرط في سياساتها وبرامجها، ولم تقبل على نفسها أن تمارس فعلا أو تقوم بدور لحساب الآخرين، وفي المحصلة فقد حافظت على شخصيتها المتميزة حتى أثناء الظرف الذي لم تكن فيه قادرة على إطلاق مشروعها إلى الميدان، هذا التوازن لم يكن عفو الخاطر وإنما كان تعبيرا عن رؤية استيعابية تتهيأ إلى أن تكون فكرة قائمة ومتكاملة، ومشروعا معبرا عن ذاته ، بحيث لا يذوب في القريب ولا يمالئ البعيد.
المشروع العربي الآخذ بالتشكل على نار هادئة، لن يكون تابعا أو ظلا لهذا المشروع أو ذاك، ولن يكون القائمون عليه من السذاجة بحيث يتصادموا مع أحد هذه المشاريع لصالح مشروع آخر، وإذا كانوا قد نجحوا في النأي بأنفسهم عن ذلك وهم في طور الضعف والإعداد لإطلاق المشروع، فهل سيفشلون وقد أصبحوا قادرين بالفعل على إطلاقه بثقة واقتدار؟
المشروع العربي المقصود لن يكون محليا ولا إقليميا ولا قوميا، بل سيكون مشروعا مستوفيا لشروط العالمية، لأن القائمين عليه لا يرون تناقضا بين العروبة والإسلام، بل يرون أن أكثر الظروف مواتاة لنجاح هذا المشروع يوم أن يتكامل العرب والمسلمون مشكلين أمة من دون الناس، عندها فقط سينطلق القطار ولن يكون بمقدور أحد إيقافه في العالمين.
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

تحذير أمني من تكرار جيش الاحتلال الاتصال بأهالي غزة وجمع معلومات عنهم
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام حذرت منصة أمن المقاومة (الحارس)، الأحد، من تكرار جيش الاحتلال أسلوبا خداعيا عبر الاتصال على المواطنين من أرقام تُظهر...

الزغاري: نرفض المساس بحقوق أسرانا وعائلاتهم
رام الله – المركز الفلسطيني للإعلام قال رئيس جمعية "نادي الأسير الفلسطيني" الحقوقية، عبد الله الزغاري، إنّ صون كرامة أسرانا وحقوق عائلاتهم يشكّل...

الأورومتوسطي: حديث نتنياهو عن مواصلة هدم بيوت غزة نسخة معاصرة للتطهير العرقي
جنيف – المركز الفلسطيني للإعلام قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، إن حديث رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، عن أن "إسرائيل ستواصل تدمير بيوت...

حماس تعلن نيتها إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي مزدوج الجنسية الأميركية عيدان ألكسندر
الدوحة – المركز الفلسطيني للإعلام قال رئيس حركة "حماس" في غزة، رئيس الوفد المفاوض، خليل الحية، الأحد، إنه "في إطار الجهود التي يبذلها الإخوة الوسطاء...

البرلمان العربي يدعو لتأمين ممرات إنسانية عاجلة إلى غزة
القاهرة – المركز الفلسطيني للإعلام وجه البرلمان العربي رسائل عاجلة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، والمفوض السامي لحقوق الإنسان، والمديرة...

نتنياهو: سنضم 30% من الضفة الغربية
رام الله – المركز الفلسطيني للإعلام قال رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إن تل أبيب "ستكون قادرة على ضمّ 30%" من الضفة الغربية....

الجهاد: لن نطلق سراح أسرى الاحتلال ما لم تتوقف الحرب
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام قال نائب الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي محمد الهندي، إن المقاومة الفلسطينية لن تطلق سراح الأسرى الإسرائيليين ما...