الخميس 08/مايو/2025

مهنّد الجنين المحرر

مهنّد الجنين المحرر

ذات ليلة شتاء ماطرة من ليالي عام 1968، داهم المحتلون “الإسرائيليون” منزل مناضل مقدسي. مخابرات الاحتلال وجيشه يعمدون للمداهمات الاعتقالية في عز الليل، ليس لضمان وجود المستهدف في منزله فحسب، وإنما لإحداث جو من الرهبة والترويع للفلسطينيين، في سلوك مبني على وهم أن يحققوا حالة من الردع المؤدي للانحناء لواقع الاحتلال، وهذا لم يكن ولن يكون. المناضل المقدسي كان قد رزق طفلاً وحيداً لم يكمل الشهرين أو الثلاثة في ذلك الوقت. ارتدى المناضل ملابسه واقترب من الصغير في سريره وطبع على جبينه قبلتين أو ثلاث واقتيد إلى قسم التحقيق في معتقل المسكوبية في القدس، وحكم عليه بالسجن المؤبّد.
كبر الرضيع زيارة بعد زيارة، حيث تفصل بين الأهل والأسير حواجز شائكة لا تسمح بعناق أو مصافحة، وفي أفضل أحوال بعض السجون كان يمكن للأصابع أن تتلامس. كبرت علاقة الأبوة بين المناضل وابنه برصيد قبلتين كانتا كل شيء فيما عدا استراق النظر من بين الحاجز الشائك لطفل نشأ على واقع الأبوة الأسيرة. لا يحصل هذا العالم الذي ينافق ل “إسرائيل” على صور يظهر فيها أسرى مستلقون على أسرّتهم ويحدّقون في صور أطفالهم، ويحاصرهم التساؤل عن النسبة المئوية لإمكان بقائهم أحياء إلى أن يأتي يوم يتمكّنون فيه من معانقة أبنائهم.
الأَسر عقوبة لا تقف عند حد الأسير نفسه، إنما تطال أهله وأسرته. ولطالما تحدى الفلسطينيون السجّان بإرادة المصممين على الحياة الكريمة، وكم مرّة اضطر فيها سجانون للاعتراف على مسمع الأسرى بأنهم عاجزون عن فهم السر الكامن في هذه العيون الأسيرة القادرة على كسر جبروت الاحتلال وحقنه بالحيرة والدهشة والعجز.
سيضطر الباحثون “الإسرائيليون” للتوقّف مطوّلاً أمام حالة الأسير عمار الزبن الذي مضى على اعتقاله خمسة عشر عاماً في سجون الاحتلال، وقد نجح قبل تسعة أشهر في تهريب بعضاً من حيواناته المنوية إلى خارج السجن، مع كل ما تتطلّبه هذه العملية من تعقيدات وتحديات طبية، وليجري لها عملية زراعة أفضت إلى ولادة طفل للأسير عمار الذي أوصى من السجن بمنحه اسم مهنّد. وحتى لا يظنن أحد أن عمار مغرم بغراميات بطل مسلسل تركي، جاء التفسير بأن الاسم تيمّن بشهيد صديق لعمار واسمه مهنّد الطاهر.
إنها إرادة الحياة المنتصرة على الموت القابع في جعب المحتلين والمستعمرين وشتى صنوف القتلة وما أكثرهم. ولعمار قصص كثيرة مع الموت قبل أن يصنع قصة حياة اسمها مهند. فأخوه استشهد برصاص الاحتلال خلال الانتفاضة الأولى، ووالدته استشهدت خلال مشاركتها في فعاليات التضامن والدعم لإضراب الأسرى عام 1994، وسمع عمار خبر وفاة والده وهو في السجن، وتوفي شقيقه خارج الوطن، وفوق كل ذلك قام الاحتلال بتدمير منزلهم في بلدة ميثلون القريبة من مدينة جنين.
لا يعرف عمار متى سيلتقي بطفله من دون حواجز شائكة وحصار النظرات الحاقدة من أعين الجنود. لكنّه يعرف أن المحتل الذي يحتجز الجسد لا يمكنه حبس الأمل واعتقال الروح. وهو يثق بإرادة النضال القادرة على إجبار المعجزات على الركوع أمام الصبر. عمار الآن خلف القضبان وهو مسلّح بالأمل، حيث يعرف أن ابن قريته شيخ المعتقلين أبو رفعت رفض الاحتلال إطلاق سراحه في أكثر من عملية تبادل، لكنّه اضطر أخيراً لذلك ليخرج أبو رفعت بعد ربع قرن أمضاه في الأسر وليموت بين أحضان أهله عام 2006.
غداً سيكبر مهنّد ويعرف أنه ولد من نطفة تسللت من خلف جدران المعتقل، وسيحكي قصّته لأترابه، وآمل أن لا تضطره أحوال العرب للإنجاب بنفس طريقة والده.
[email protected]
صحيفة الخليج الإماراتية

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات