الخميس 08/مايو/2025

دراما المخيم الفلسطيني في سوريا

دراما المخيم الفلسطيني في سوريا

لخصت الأزمة الوطنية العامة في سوريا في جوانب كبيرة منها دراما المخيم الفلسطيني في سوريا، فقد باتت المخيمات والتجمعات الفلسطينية على أرض سوريا بمثابة أنبوب اختبار جديد، يغلي ويفور سياسياً وعلى مستوياته المختلفة، متفاعلاً مع الحدث السوري بضوابط وطنية يسودها المناخ الوطني العام، الذي يقول إن الفلسطينيين يقفون من الأزمة موقفاً متوازناً وإيجابياً ونبيلاً وعلى حد السكين، مسترجعين الدروس الثمينة من السيرة الفلسطينية منذ ما قبل النكبة وحتى اللحظات الراهنة، وهي دروس مختزنة في الذاكرة الجمعية لأبناء مخيم اليرموك، منذ الأسنان اللبنية، حتى صارت في تكوينها متكئة على صورة الحدث اليومي، وعلى سيرة مروية حملها معهم من دفعت بهم الأقدار خارج الوطن الفلسطيني في زمن الهجرات القصيرة والطويلة، وعلى سيرة واقعية حاملة للحلم الوطني المشروع في زمن الانكسارات العربية المثخنة بالهزائم والتراجعات، وفظاظة المنطق التبريري.
ذاكرة فلسطينيي سوريا
الضجيج السياسي والفكري، حالة طبيعية في التجمعات الفلسطينية في سوريا، لكن الضجيج هذه المرة بات بشكل آخر، وبطعم من نوع جديد، فالأزمة السورية طاحنة، والموقف من الوضع الداخلي السوري يقتضي درجة عالية من الحكمة والتبصر وعمق الرؤية، ولا يقبل موقفاً ارتجالياً غير مدروس، أو موقفاً على عواهنه، يدفع الناس نحو التهلكة.
أكبر التجمعات الفلسطينية في سوريا ونعني به مخيم اليرموك، يعيش حالة من الحيوية العالية المرفقة بالصخب، السياسي، والفكري، وهي حالة ميّزت على الدوام هذا التجمع الفلسطيني خلال المفاصل والأزمات الرئيسية من عمر العمل الوطني الفلسطيني، وعموم الأزمات في المنطقة العربية.
مخيم اليرموك، الملاصق لمدينة دمشق من جهة الجنوب والتابع إدارياً لها، يَضُم بين ثناياه نحو ربع مليون مواطن فلسطيني معظمهم من لاجئي عام 1948، من أبناء مدن وأقضية حيفا وعكا ويافا وصفد واللد والرملة وطبريا والناصرة.. من بين نحو سبعمائة ألف فلسطيني يقيمون في سوريا، منهم نحو نصف مليون من لاجئي عام 1948 والذين يُعرفون بعبارة (فلسطيني – سوري) وهم كالسوريين تماماً في الحقوق والواجبات وفق التشريعات السورية الصادرة منذ عام 1949 خصوصاً منها القانون رقم (256) الصادر عام 1956 والذي يقول بالمساواة التامة بينهم وبين إخوانهم السوريين باستثناء حق الترشح والمشاركة في الانتخابات البرلمانية والرئاسية وانتخابات الإدارة المحلية.
ذاكرة فلسطينيي مخيم اليرموك وفلسطينيي سوريا عموماً، ذاكرة مرهفة، لاقطة، بحساسية عالية تتعدى «عالم المايكروسكوبيات»، فقد راكمت مخزونها رويداً رويداً، فأمست منذ زمن بعيد ذاكرة لا تصدأ بفعل الحت الزمني، فقد نشأت وتغذت مع لبن التخليق، فلاحقت الفلسطيني من الوطن إلى الشتات ومن الوطن إلى الوطن، ومن رحم الولادة إلى الكون المفتوح، فكانت لحظة البداية، في متوالية الأسئلة المتزاحمة، التي تفتحت معها بواكير الوعي الفلسطيني لأجيال الشتات، والمشتتين على أرض الوطن الفلسطيني.
ذاكرة فلسطينيي سوريا، واسعة في حجم مخزونها، لا تنسى، ذاكرة غير مثقوبة، لا تغفل دروس الماضي، منذ أن وطأت أقدامهم أرض وطنهم الثاني سوريا الحالية، التي كانت على مر التاريخ وحدة واحدة ضمن بلاد الشام. ففي تجربتهم الدمشقية اشتبكوا سياسياً مع أنظمة تتالت، ونالت منهم حكومة يوليو 1963 بجر أعداد منهم إلى السجون والمعتقلات إلى جانب عشرات السوريين على خلفية المحاولة الانقلابية الشهيرة التي قادها العقيد السوري جاسم علوان في التاريخ ذاته، فجرى إعدام ستة عشر شاباً من أبناء فلسطين جلهم من مخيم اليرموك، ومن المنضوين في الكتيبة الفدائية (68) التابعة للجيش العربي السوري في سجن المزة العسكري، قيل بأنهم كانوا من المتورطين في انقلاب يوليو 1963 الفاشل.
قَهر العطالة الذاتية
في سياق تلك الذاكرة الحية، وفي هذا المعمعان من الوعاء التفاعلي المتواصل تحت حرارة بارومتر الحدث اليومي، قَهر فلسطينيو سوريا وهزموا «العطالة الذاتية» التي تسببها كمومية وكتلة الأشياء، واكتسبوا «توازناً قلقاً، لكنه مرموق» متغلباً على محصلة «القوى الصاعدة والهابطة، والآتية من كل الاتجاهات»، ليبنوا موقفاً متوازناً وعاقلاً من الأزمة السورية منحازين بانشداد إلى الشعب السوري بكل أطيافه ومكوناته، والى سوريا الواحدة الموحدة، دون أن يتخلوا عن خصوصية اللقب: لاجئ فلسطيني في سوريا.
لقد ارتسمت علامات المخيم والتجمع الفلسطيني وفرادته في سوريا بالرغم من التداخل والتلاصق الهائل مع النسيج العام للشعب السوري الشقيق، فبنى اللاجئون الفلسطينيون الذين «يتمتهم النكبة» فلسفتهم الخاصة في حدود المخيم الفسيحة في عمقها، ومن رقعته الجغرافية الضيقة إلى الحدود اللامتناهية من التفاؤل والحلم المشروع، من مأوى الشتات وحتى ساحات مدارس وكالة الأونروا المتراصة في أحياء مخيم اليرموك كما هي الحال في عموم المخيمات الفلسطينية في الداخل والشتات، فامتلأ طريقهم المتعدد والمتجدد، المتنور والمتطور، بنتاج تلاقح واقتران الوعي بالفتوة النقية، والرأي بالشجاعة، وفي السباق على طريق غد قادم يتجسد فيه الحلم الفلسطيني المشروع. إنها فلسفة معاشة من الوعي أنتجتها وقائع التجربة الفلسطينية المرة والمريرة، وبنت حولها وعليها طوقاً إنسانياً شديد الانحدار في انسيابه نحو العطاء الإنساني.
إن تلك الحالة الفلسطينية العامة في مخيم اليرموك وغيره من التجمعات الفلسطينية فوق الأرض السورية، استدرجت عمقاً في الحيوية والنقاش، تَشهد عليها كل يوم الاجتماعات المتواترة التي انطلقت منذ بدايات الأزمة السورية، لوجهاء وشخصيات ومثقفي مخيم اليرموك والعاملين بالشأن العام، ومن بينهم عدد كبير من المستقلين ومن أعضاء وكوادر الفصائل الفلسطينية الخمس عشرة التي تعمل في التجمعات الفلسطينية في سوريا وهي: حركة فتح، حركة حماس، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الجبهة الشعبية/القيادة العامة، منظمة الصاعقة، حركة الجهاد الإسلامي، جناحي جبهة النضال الشعبي الفلسطيني، جناحي جبهة التحرير الفلسطينية، حزب الشعب الفلسطيني، الحزب الشيوعي الفلسطيني، حركة فتح/الانتفاضة، حزب الاتحاد الديمقراطي الفلسطيني (حزب فدا)، الجبهة الديمقراطية.
فلولكور الحوار والتباينات
في تلك اللقاءات والاجتماعات، كانت التباينات، والاختلافات، وتعدد الرؤى وتضاربها في أحايين كثيرة واضحة، وهي كالعادة عند كل مفصل سياسي، فباتت على الدوام جزءاً أصيلاً من فولكلور المخيم الفلسطيني في سوريا. فهناك الآن من يقف مع سوريا «النظام والشعب» بقوة وانحياز كبير. وهناك من يقف في الوسط. وهناك من يرى بأن الفلسطينيين منحازون للشعب دون النظام ولكن دون تورط أو غرق في أزمة لها أبعاد أكبر من الشعب الفلسطيني ومن قدرته على التحمل والاحتمال. وهناك من التحق وعلى قلتهم العددية بما بات يعرف بالجيش الحر في حي التضامن وغيره من الأحياء السورية. لكن الجامع الأساسي كان على الدوام هو السائد في تقرير الموقف العام وفي إحلال ما يمكن تسميته بالمزاج الشعبي لدى عامة الناس، موقف لا يسمح للفروق والتباينات بأن تشتته، حيث المناخ العام المُقر راهناً وبإجماع وطني فلسطيني يقول بأن دور الفلسطينيين في سوريا هو دور إطفائي وإيجابي على صعيد البلد ككل، ولا يمكن أن يتعداه لدور انتحاري ليدخل إلى قلب كرة اللهب المشتعلة بالرغم من سقوط نحو أربعمائة شهيد من فلسطينيي سوريا خلال الأزمة السورية وحتى بداية شهر أغسطس الجاري 2012، كان منهم شهداء مجزرة قذائف الهاون 120 ملم، التي سقطت في شارع الجاعونة الواقع جنوب شرقي مخيم اليرموك.
لقد عاش الفلسطينيون ومازالوا، وخصوصاً اللاجئين منهم من حاملي ما يعرف بـ «وثيقة السفر»: الوثيقة السورية واللبنانية والمصرية والعراقية، في دياسبورا المنافي الشتات، حياة مليئة بالظُلم المُدقع والإجحاف المُؤلم في دنيا العرب والعروبة، كما هو حال فلسطينيي لبنان على سبيل المثال. وتجرعوا خلالها مرارة ما بعدها مرارة، وتمرغوا في وحول أزمات فُرضت عليهم، ومعادلات تاجرت بهم، وبقضيتهم، وتعطلت بهم السبل، فَتَعشّقَ الظُلم داخل مكنوناتهم، وجعلهم يَتضامنون تلقائياً مع من وقع عليه ظُلم الآخرين، ليصبحوا بذلك مقاتلين أشداء من أجل نُصرة المَظلوم، وحرية الإنسان وكرامته، فبنوا فلسفة تقول بضرورة الحفاظ على الأوطان مهما كلف الثمن.
إن الاحساس بالظُلم والإجحاف أمر مغروس في نفوس لاجئي الشعب الفلسطيني وحاملي ما يسمى بالوثيقة، الذين كانوا ومازالوا في أوقات كثيرة ضحايا الترحيل والنوم في قاعات الشحن والترانزيت في المطارات العربية. لكن هذا الإحساس لم ولن يتماهى لدرجة بروز روح الانتقام، بل ترافق معه صَبرٌ كبير، وحُلمٍ عالٍ في سياق العمل من أجل وطنهم فلسطين، والحفاظ على بوصلتهم نحوها مهما تعاظمت التحديات وتعددت الالتواءات والمصاعب وتعقدت السُبل.
وانطلاقاً من تلك العجينة والخلطة السياسية والفكرية التي باتت مغروسة في الوعي الجمعي الفلسطيني، انطلق فلسطينيو سوريا، ومنهم فلسطينيو مخيم اليرموك يمدون يد العون لكل أبناء الشعب السوري بموزاييكه وألوانه المختلفة السياسية والفكرية والطائفية وغيرها، وفاتحين بيوتهم لأبناء سوريا وللأحياء المحيطة بمخيمهم، والتي تضررت في حي التضامن، والميدان، والعسالي، والقدم، والحجر الأسود، والقاعة وغيرها، رافضين منطق التقاتل الطائفي المقيت إن وجد ولو محدوداً، داعين الشعب السوري للمحافظة على وطن اسمه سوريا بكل مكوناته وممتلكاته وثرواته وإنسانه.
صحيفة الوطن القطرية

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات