الثلاثاء 13/مايو/2025

الذاكرة والواقع

الذاكرة والواقع

على مدى ستة عقود تعاقبت ذكرى النكبة على الشعب الفلسطيني بفظائع جرائمها وفداحة نتائجها، وفي الأسوأ ما حاق باللاجئين الفلسطينيين الذين أُخرجوا من بيوتهم وشُردوا من بلدهم وقُذفوا من فوهة الحرب المفتوحة على وجودهم وحياتهم ومصيرهم إلى المجهول.
لكن ما كان معتاداً على مدى عقود تغير ولم يعد حاضراً فلسطينياً في 15 من مايو/ أيار الذكرى، بل النكبة ذاتها وهذا ما يمكن المرور عليه بالمناسبة من خلال التذكر والتأمل.
في التذكر لم يبق الفلسطينيون الذين عاشوا أيام النكبة وقُدر لهم النجاة من الإبادة العنصرية الصهيونية، شهوداً وضحايا على الفظائع التي ارتكبتها العصابات الصهيونية بل حملوا ما عانوه وعاشوه، وما كان عاصفاً من مشاهد القتل الوحشي ومعاناة الرحيل القسري، وحولوا هذا إلى ذاكرة متقدة متجذرة ومتجددة للأجيال الفلسطينية، فالآباء يورثون أبناءهم ليس معاناتهم، بل قضيتهم التي هي حقهم وحقوقهم وتاريخهم ووجودهم ومستقبلهم وبالإجمال مصيرهم.
في التأمل، فإن النكبة على هذا النحو متواصلة، والقول هكذا يقوم على حقيقة الكيان الصهيوني القائم على العدوان والاحتلال والاستيطان، وهذا الثالوث لم يتوقف في يوم من الأيام منذ قيام الكيان الصهيوني، بل إن الاندفاع إليه يتزايد.
راهناً فإن الأمثلة على هذا طائلة، للعدوان أوجه وأساليب ووسائل عديدة، فالفلسطينيون مستهدفون في حقوقهم ووجودهم، وهم مطاردون ومعرضون للاعتقال الكيدي والاغتيال، فيما المنازل تُهدم والمزارع تُقلع وقاطرة المستوطنات متسارعة في الأراضي الفلسطينية، والقدس تشهد تقويضاً صهيونياً لطابعها التاريخي والروحي والإنساني وهويتها الفلسطينية، غير أن محرقة غزة تبقى الشاهد على أن الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها العصابات الصهيونية الإرهابية العام 1948، باتت ليست الوظيفة التي تقوم بها قوات الاحتلال وحسب، بل هي العقيدة السائدة لهذا الكيان وهي تترجم باستخدام أخطر الوسائل وأفظع الأساليب الوحشية.
وفي الذكرى، فإن عالمنا الدولي لم يكن أمام النكبة في موقف عادل، لأنه تجاوب مع تمرير بريطانيا خطتها بتبنّي قيام الكيان الصهيوني ليس في أرض اُحتلت بالقوة وبدعم استعماري فقط، بل وعلى حساب حقوق ووجود الشعب الفلسطيني، وفي الأغلب يعيد كثير من المراقبين الأمر إلى ميزان القوى آنذاك من جانب، وإلى حقيقة تبني قيام الكيان الصهيوني في قلب المنطقة العربية من جانب آخر.
إلى ذلك فإن التأمل راهناً بالموقف الدولي يصب في الأغلب لمصلحة الاحتلال الصهيوني، للعدوان والاستيطان ليس ثمة رادع، وقرارات الشرعية الدولية، الكيان الصهيوني رمى بنصوصها عرض الحائط، وفيما تتلقى “إسرائيل” الدعم والحماية لسياستها، فإن المجتمع الدولي غير مهتم بقضية الشعب الفلسطيني، وربما كان المناسب في المناسبة التساؤل: هل استمرار قضية الشعب الفلسطيني بهذا التجاهل الذي لا يمكن فهمه إلا في نسق تصفيتها سيصير على هذا النحو انجازاً للأمم المتحدة؟ أو أنه عار على هذه المنظمة تخليها عن مبادئها وعدم تنفيذها قراراتها؟، والسؤال الأهم هو: إذا كانت الولايات المتحدة في انحياز كامل للكيان الصهيوني وهي تدعم سياسته وتحمي جرائمه، وتشجع هذا الكيان على رفض قرارات الشرعية الدولية وتمنع عقوبات جرائمه إذا كان ذلك واردا، فهل الأمم المتحدة بمسؤولياتها والمجتمع الدولي بأسره غير معني بإحقاق الحق في هذه القضية؟
هل نحتاج إلى تأمل ما في الوقت الراهن؟ لقد انقلب الأمر جذرياً، بالنسبة إلى الدول العربية ، وهذا لا يعود إلى موقف استراتيجي يقوم على أن هجوم السلام هو السلاح النافذ لمواجهة كيان قائم بالأساس على العدوان، لأن السلام في حال الكيان الصهيوني لا يُطلب ولكنه يُفرض من جهة، ومن جهة ثانية لم تخرج الدول العربية من المواجهة فقط، بل إنها تخلت عن الفلسطينيين وقضيتهم.
هنا لا نعني الجيوش العربية ولا حتى الجماهير في الشارع العربي، المسألة في التعامل مع الفلسطينيين، فالدول العربية وبدلاً من دعم الفلسطينيين في مواجهة العدوان ومقاومة الاحتلال وإزالة الاستيطان، وهو حق مكفول بالمواثيق الدولية والقيم الدينية والأخلاقية والإنسانية، وهو واجب أخوي قبل كل شيء، توارت إلى المشهد الرمادي حيث يختلط التخلي عن المسؤولية بإهدار الإمكانات العربية الهائلة للتحرك السياسي والدبلوماسي العربي الفاعل دولياً في دعم القضية الفلسطينية والسلام الدائم.
على أن الأهم ما كان عليه الوضع الفلسطيني في ظروف النكبة وما آل إليه في الراهن، فبعد أن ألقت النكبة بظلالها، وكانت كارثية، لم يكن الفلسطينيون في قهر وإحباط ويأس، والسبب أنهم بأفرادهم وفئاتهم وجماعاتهم ومنظماتهم وتنظيماتهم كانوا في نسيج وطني واحد، وكانوا يفتدون بعضهم بعضاً وواجهوا مصيرهم بمشاركة وتكاثف وتآلف وتآزر، وعلى هذه الأرضية كان النهوض الوطني الفلسطيني في الداخل والخارج.
أين ذاك الحال مما هو قائم الآن؟
الانقسام السياسي بين “فتح” و”حماس” الساقط على الأرض في الضفة وغزة استقر في “أسْر” مغريات السلطة وهي مع الأسف سلطة وهمية في ظل الاحتلال، ما يعني أن هذا الوقت الذي طال بعدم الخروج من هذا الانقسام يعود إلى أن كلا الطرفين لم يحسم حتى الآن أمر خياره بين البقاء في التقسيم وبين العودة إلى التقاسم.
وما هو لافت أن طرفي الانقسام بعد وهم الاستئثار بالشأن الفلسطيني أخذا في استشعار زلزال مغاير، الأسرى كانت انتفاضتهم ضد جور الاحتلال، فهم لم يحققوا العديد من مطالبهم وحسب، بل كانت معركة “الأمعاء الخاوية” رسالة إلى أصحاب الرؤوس الخاوية من تمثل المسؤولية أمام هذا الانقسام بمخاطره القاتلة وخسائره الفادحة والذي يطرح سؤالاً، بل ألف سؤال عن حقائق الأسباب والدوافع؟
* صحفي وكاتب يمني
صحيفة الخليج الإماراتية

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات