وانتصر الأسرى.. سبحانه يجعل سره في أضعف خلقه

لم تعد ذكريات الدم والتشرد الفلسطيني طي النسيان كما كانت لسنين عددا بعد النكبة، ولم تعد تمر كما كانت تمر لسنين أخرى كثيرة بعد ذلك من خلال حفلات الأغاني ومهرجانات التسلية الأشبه بالرقص والطرب، ولم يعد خطباء السياسة هم نجوم المناسبات وأحدهم لا يحسن إلا “تزويق” الكلام ومصانعة علان وفلتان وربما بيتفاخر بأنه لم يطلق على العدو رصاصة واحدة.. لم تعد تمر ذكريات الدم والتشرد الفلسطيني عبر دموع الأسى والغربة اليائسة البائسة المشتتة في المهاجر والمخيمات..
لقد صارت هذه الذكريات تمر حاشدة بالانتصارات والتضحيات بقدر ما يمتلئ العدو رعبا وخوفا منها على كل شيء.. في المشهد الجديد احتفالات (وأهازيج نعم ؛ لكنها على وقع الانتصار لا النكبة ولا النكسة.. وفي الاحتفالات نجوم هم الأسرى الفعّالون المجاهدون المقاومون وليسوا القوّالين ولا الخطّابين.. وفي المشهد صورتان متناقضتان؛ انتصار الأسرى الفلسطينيين وإرادتهم وتضحياتهم؛ وصورة انكسار السجان الصهيوني.. وسبحان الله الذي كتب النصر على أيدي هؤلاء الأسرى الذين يفترض أنهم تحت يد الاحتلال بلا حول ولا طول بين يدي سجان عتل جواظ متكبر طعان لعّان موتور بغيض يتحكم في طعامهم وشرابهم ونومهم ويقظتهم.. لكنهم اليوم يفرضون إرادتهم على السجان، وقضيتهم على الإعلام، وأجندتهم على ذوي القربى الذين نسوهم وعلى الأباعد الذين لم يهتموا بهم.. وها هم يحققون الإنجازات الكبيرة ويدوسون بكبريائهم إرادة العدو وعناده وطغيانه.. ومن كان يظن أن الأسرى الذين هم في قاع المظلمة الفلسطينية وفي قعر النسيان الرسمي يكون منهم كل هذا الإبداع وأن يحققوا كل هذا الإنجاز..
في مشهد النكبة والنكسة العام الماضي – قبل سنة – كانت الجموع الشعبية السلمية والشبابية تهاجم أطراف دولة الكيان على أنغام الثورات العربية فسقط من سقط شهيدا.. ولعل ذلك يتكرر مرات وكرات.. وما بين السنتين والمرتين تحرر حماس في وفاء الأحرار أكثر من ألف أسير من ذوي المحكوميات العالية والمؤبدات.. لقد رسم الشعب الفلسطيني خطاً فاصلاً بين مرحلتين؛ مرحلة إحياء ذكريات المأساة الفلسطينية بالبكاء على الأطلال، ومرحلة إحيائها بالانتصارات وكلمة السر في ذلك كله.. أن الشعوب تملك ما لا تملكه النظم.. فيما العدو يأكله الرعب والخوف من المستقبل..
لقد صار خوف العدو اليوم ليس من الهزيمة العسكرية أمام الجيوش الرسمية التي أعد نفسه وجيشه لها تماما ؛ ولكن من أن تنطلق حراكات شعبية تتجاوز حدوده السياسية إلى الداخل بأمواج بشرية من كل جانب لا يستطيع ردها، أو بانتفاضة ثالثة تأكل كل ما تقدم بين يديها مما اشتغل عليه الاحتلال عشرات السنين من الأشكال والبناءات السياسية للحيلولة دون تحرك الشعوب وجهودها وإبداعاتها..
جدير فهم ما كان سببا في تعجيل انتصار إضراب الأسرى وإخضاع العدو به.. ولا بد من ضبط النسب واستخلاص العبر وربط كل عبرة بحدثها وحديثها وكل استخلاص بأصله وفصله.. ليمكن بعد ذلك تفعيله وإعادة الاستثمار فيه.. وليس يجوز أن يبهرنا النصر مهما عظم عن مواطن ضعف كان يفترض أن لا توجد في المشهد بقدر ما لا يجوز أن تتكرر.. لتكون الفرحة أشد صفاء ولذة النصر أكثر إمتاعاً وليكون النصر مؤزراً والفتح مبينا.. وكل ذلك لا يجوز أن يغفلنا عن أن القيمة النهائية للمشهد هي النصر الجميل.. وأقول:
أولاً: إن من أهم ما كان سببا في انكسار العدو والتعجيل بالنصر أن القضية إنسانية وأخلاقية وحقوقية من الطراز الأول، وأن لها بالتالي وقعا أخلاقيا لدى كل من يسمع عنها منا أو ممن حولنا.. ولأنها كذلك فهي تتحدث بلغة عالمية يفهمها القاصي والداني ويراها الأعمى والبصير ويسمعها الأصم والسميع.. لذلك تحقق النصر، ولو أننا تفاعلنا معها – أقصد الرسمية الفلسطينية والعربية – بعالمية أكثر وإعلامية أشمل في المجامع والمنتديات والمؤسسات الحقوقية والدولية وبالأخص منها الرسمية لما احتاج الأسرى أن يجوعوا كل هذه المدة ولحققوا الكثير مما لم يتحقق بعد.. العلة الأساس هي أن العدو يخشى على الصورة الأكاذيبية التي ركبها لأخلاقيات زائفة اشتغل عليها كثيرا وأنفق عليها أكثر مما ننفق على طعامنا وشرابنا..
مثل هذه القضية الإنسانية الحقوقية الأخلاقية كل القضية الفلسطينية بكل عناوينها التفصيلية التي تصلح كل واحدة منها عنواناً لإضراب جديد (كقضية الأسرى – ما تبقى منها أكثر مما تم حسمه – وكقضية الحصار على غزة، وقضية الاستيطان والتهويد، وقضية منع رخص البناء في الضفة وفي القدس خاصة، وفتاوى حاخاماتهم الدينية اليهودية المتطرفة، والمجازر بأنواعها والمتضررين منها، وتجنيد العملاء، ومنع الانتقال للعلاج)..
ثانياً: العدو يخشى إلى درجة الرعب من انتفاضة ثالثة صارت بالفعل على أهبة الاستعداد واحتشدت لها كل مكونات الانطلاق.. وما بقي إلا الشرارة وكان ينتظر أن تكون شرارتها استشهاد بعض الأسرى.. أما مكونات هذه الانتفاضة ؛ فالربيع العربي، والانغلاق السياسي، ومعاناة الأسرى وأهاليهم، إضافة للانقسام الوطني الفلسطيني، والفقر وتأخر الرواتب والإشاعات حول الفساد المالي والإداري والأمني.. الانتفاضة الثالثة خرجت من كونها مجرد فكرة في البال وأمنية في الخيال.. إلى أن اعتمد اسمها تقريبا (انتفاضة الأسرى).. هنا لا يمكن التغافل عن أن جهات فلسطينية حاولت تنفيس هذا الاحتقان وسعت لتفكيك الإضراب وتخلت عنه ببيان رسمي.. والبعض أقام المهرجانات الرياضية وبالغ في الترويج والحشد لها، ولسنا ننسى هنا ما قامت به أجهزة السلطة من اعتقال بعض المتضامنين مع الأسرى.. صاروا اليوم آباء النصر وكلهم يدعي وصلاً بليلى.. ولكن ليلى بالتأكيد لا تقر لهم بذاك.. وقبل يومين فقط كانوا شيئا آخر وفي مكان آخر..
ثالثاً: هذا الإضراب الذي خاضه الأسرى وقع زمانيا داخل مجموعة من المناسبات الوطنية والتواريخ الدامية للشعب الفلسطيني.. يوم الأرض 30/3، ويوم الأسير 17/4 وذكرى النكبة 15/5، وذكرى النكسة 5/6.. هذا التوقيت كان غاية في الذكاء فقد جمع أكثر من سبب لتحشيد الناس وربط الأحداث واستثمار الغضب الفلسطيني.. فصارت إمكانية التصعيد وهوامش المناورة فيه كبيرة وكثيرة.. هذا يعني أنه يمكن استثمار هذه الفترة من كل عام لتصعيد كل عناوين الصراع السياسية التصادمية مع العدو واحدة تلو الأخرى..
رابعاً: وكان للإعلام دور أساس في تحقيق وإنجاز هذا النصر.. وأعيد اليوم التذكير بما قلته في مقال سابق – ضمن نفس الموضوع – مقولة الهالك بيجين – الرئيس السابق لوزراء العدو – في مذكراته ” لو كان مع الفلسطينيين كاميرا تلفزيونية واحدة عام 48 لما قامت “دولة إسرائيل”.. نعم كان للإعلام دور ولكن ليس الإعلام الرسمي الذي تخلف كثيرا وصمت طويلا.. ولكنه إعلام الشباب، وإعلام حملات الفيسبوك الذي اصطبغ باللون البني المستخدم في ألبسة الأسرى لدى الاحتلال.. إعلام الأفراد والشعوب الذي لا يمكن للعدو التواصل معه ولا السيطرة عليه ولا القدرة على احتوائه وتداعياته..
آخر القول: يمكن أن ننتصر على العدو في كل التفاصيل، وتحت كل العناوين ولقد صار ممكنا تغيير وجه التاريخ الذي كان مظنوناً أنه لن يتغير.. أما الفارق والمعول عليه فهو الشعوب التي إن تتحرك فهي السلاح الذي يخافه كل أحد.. إنه انتصار الضحية على الجلاد وانتصار العين على المخرز.. وسبحان من (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها) وصدق من قال ” يجعل سره في أضعف خلقه”..
◦ (محلل اقتصادي فلسطيني)
[email protected]
صحيفة الشرق القطرية
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

حماس تدعو للنفير لحماية الأقصى بعد محاولة ذبح القرابين
القدس المحتلة – حركة حماس قالت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، إن محاولة المستوطنين ذبح قربان في المسجد الأقصى يعد تصعيداً خطيراً يستدعي النفير...

مؤسسات الأسرى: تصعيد ممنهج وجرائم مركّبة بحق الأسرى خلال نيسان الماضي
رام الله - المركز الفلسطيني للإعلام واصلت سلطات الاحتلال الإسرائيلي خلال شهر نيسان/ إبريل 2025 تنفيذ حملات اعتقال ممنهجة في محافظات الضفة الغربية،...

إضراب جماعي عن الطعام في جامعة بيرزيت إسنادًا لغزة
رام الله- المركز الفلسطيني للإعلام أضرب طلاب ومحاضرون وموظفون في جامعة بيرزيت، اليوم الاثنين، عن الطعام ليومٍ واحد، في خطوة رمزية تضامنية مع سكان...

القسام تفرج عن الجندي مزدوج الجنسية عيدان ألكساندر
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أفرجت كتائب الشهيد عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، عند الساعة 6:30 من مساء اليوم...

خطيب الأقصى: إدخال القرابين يجب التصدي له بكل قوة
القدس – المركز الفلسطيني للإعلام استنكر خطيب المسجد الأقصى الشيخ عكرمة صبري، محاولة يهود متطرفين إدخال قرابين إلى ساحات المسجد الأقصى، معتبراً أنه...

حماس: المؤسسات الأممية هي الوحيدة المختصة بتوزيع المساعدات بغزة
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام قالت حركة حماس، إن المجاعة في قطاع غزة تشتدّ بشكل كارثي وسط استمرار الحصار ومنع دخول الغذاء والدواء. وأكدت في بيان...

إطلاق الأسير ألكسندر يفجر غضب عائلات باقي الأسرى على نتنياهو
الناصرة - المركز الفلسطيني للإعلام فجّر قرار حركة حماس إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي الأمريكي عيدان ألكسندر من قطاع غزة غضب عائلات باقي الأسرى...