الإثنين 12/مايو/2025

أبناء ما بعد النكبة

أبناء ما بعد النكبة

في الحافلة من عمّان للزرقاء، طالب مراقب التذاكر الأجرة. القادم من رام الله في زيارته الأولى للأردن لا يميّز على نحو سريع بين القطع النقدية، يضعها على راحة يده ويستعين بصبي يجلس إلى جانبه. يختار الصبي قيمة الأجرة ويفشل في إطالة التردد الذي لمع في عينيه ليسأل عن البلد الذي ينتمي إليه ذلك الجاهل بالعملة. يجيب هذا: من فلسطين. يتابع السؤال عن أي مكان في فلسطين؟ فيجيبه “الضيف”: رام الله. انتقلت حمى الفضول في خلد الضيف ليسأل: وأنت؟ من مدينة الرملة الفلسطينية المحتلة عام 48، ومزيد من الاستيضاح تبين أن والد الطفل مولود في الشتات، فيما الجد هو المولود في الرملة والمقتلع منها بفعل الإرهاب الصهيوني سنة النكبة.
إذن، فالطفل الذي لم يتجاوز العقد الأول من عمره يمد الحبل السري لانتمائه إلى مشيمة الرملة مسقط رأس جده ووطنه الأول، ولا بأس إن كان يعتبر البلد الذي يقيم فيه بلده الثاني في إطار الانتماء للإطار قومي بحدود العروبة.
في الذكرى الرابعة والستين للنكبة، ينبغي النظر في وجوه أطفال بعمر الورد في مخيمات الضفة الغربية وقطاع غزة ومخيمات اللاجئين في الأردن ولبنان وسوريا. وينبغي أكثر رصد مشاركة هذا الجيل الثالث للنكبة في مسيرات حماية الذاكرة في المدن والقرى المحتلة عام 48، عندما قالت غولدا مائير “الآباء يموتون والأبناء ينسون”، كانت تتمنى مضمون كلامها أكثر مما توقّعت، ذلك أن كلامها ينطوي على تحطيم لمنطق الأشياء والفطرة الإنسانية، إذ ليس الارتباط بوطن الأجداد اختراعاً فلسطينياً، وليس التاريخ بحاجة إلى بطولات من أطفال فلسطين لكي يقدّم عصارة الإحساس البشري بالأوطان، ذلك الإحساس الذي لا يميّزه عن ميل النمل لوطنه سوى مسألة الوعي المتقدّم على الغرائز.
عندما تسمع طفلاً يقول إنه يرث أربعة عشر دونماً من الأرض في جبل الكرمل الحيفاوي، وإنه لا بد أن يعود إليها، تشعر بلذّة النظر بعين المساواة والمشابهة بين كلام غولدا مائير والتفاهة. موت الآباء أمر طبيعي ومصير لا طاقة لهم بتجنبّه وهو جزء من سنة الحياة نفسها، أما نسيان الأبناء أوطانهم وحقوقهم، فهذا ما يدفع للسؤال عن المدى الزمني الذي تحتاجه “إسرائيل” لكي تعرف أن النسيان الموهوم هو الوجه الآخر للمستحيل؟
لو كان أي كيان آخر غير “إسرائيل” الذي هدم قرية العراقيب سبعاً وثلاثين مرة، وفي كل مرة يعيد الأهل بناءها، لجلس مع نفسه وفكّر ملياً في دلالات هذا التمسّك المصيري بالوطن، ولأدرك أن تجريم إحياء النكبة بقانون ليس سوى وصفة لتفعيل الذاكرة الفلسطينية وتكدّس الأجيال حول هدف العودة كما يتكدّس النحل على الغصن.
النكبة ليست حدثاً جرى وانتهى، فما دامت النتائج التي نجمت عن الحدث  قائمة، وطالما الحقوق التي سلبت لم تعد، فإن المطالب لا تموت ولا تتبخر على جمر النسيان حتى لو بعد ألف عام، وحتى لو وقعت قيادات بعض المراحل مئات المعاهدات والاتفاقات. فالوطن ليس عقاراً مسجّلاً باسم أفراد يملكون التصرّف بها في بورصة السياسة والتفاوض.
إن حق العودة سيبقى كلمة السر الأساسية لنهاية الصراع العربي الصهيوني. ولو كان الفلسطيني أميّاً لا يقرأ التاريخ، فإنه يقرأ تجربته الخاصة، ويردد صدى الهدف الأصيل بلسان فنان الثورة الفلسطينية أبو عرب حين اختزل برنامج حق العودة بمواله: “يا داري مهما طال البعد لاجي.. ودمعي بفرقتك عالخد لاجي.. ما أرضى عيشتي باسم لاجي.. لا بد أعود لو طال الغياب”.
[email protected]
صحيفة الخليج الإماراتية

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات