النضال بالجوع

ربما لا يفهم كثيرون لماذا يضرب البعض عن الطعام للاحتجاج أو اتخاذ موقف ما رغم وجود سبل أخرى للتعبير قد تكون أقل خطراً أو ضرراً على المحتج. وتتباين آراء من يتفهمون الاحتجاج بالإضراب عن الطعام، فالبعض يعطيه صبغة دينية كأنه “صيام احتجاجي” إما اعتكافاً عن حال الدنيا الذي لا يعجبهم في وقت ما أو لتوصيل رسالة ما.
والبعض يرى فيه درجة من درجات المقاومة السلمية في الصراع غير المسلح بين قوى غير متكافئة. وهذا هو النضال بالجوع تمثلاً بأسلوب الكفاح اللا عنيف لمهاتما غاندي وغيره من قبله ومن بعده.
والواضح أنه أياً كان تفسيرنا للإضراب عن الطعام، دينياً أم دنيوياً سياسياً، فهو شكل من أشكال المقاومة لما قد لا يقبله الفرد أو المجموعة مما يعتبرونه ظلماً لا يستطيعون رده بذات قوته فيكون الاحتجاج بالمقاومة السلبية. والإضراب عن الطعام شكل متقدم من الاحتجاج والمقاومة لا يلجأ إليه المظلوم أو المقهور إلا بعد استنفاد أساليب أخرى مثل التظاهر والإضراب عن العمل والاعتصام… إلخ.
لكن التطور وصولاً إلى الإضراب عن الطعام ربما يكون مفهوما في حالة احتجاج من يملكون حق العبير بوسائل أخرى، أو على الأقل يمكنهم استخدام أساليب أخرى قبل الوصول إلى الإضراب عن الطعام. أما في حالة المحبوسين، سواء كانوا معتقلين لدى نظام قمعي لأسباب تتعلق بالرأي أو أسرى لدى عدو لهم فلا يملكون تلك الأساليب التي تسبق الإضراب عن الطعام. ومن ثم بالنسبة للمعتقلين والأسرى لا يعد الإضراب عن الطعام تصعيداً بقدر ما هو الأسلوب المتاح للاحتجاج القوي والتعبير عن موقف وربما تحقيق مطلب. وعلى عكس ما قد يتبادر إلى أذهان بعض السطحيين منا، بأن الإضراب عن الطعام ـ
خاصة للمطالبة بما قد يظنه بعض من لم يعتادوا المقاومة والاحتجاج صعب المنال ـ إنما هو حالة من اليأس وربما رغبة في إنهاء الفرد حياته يأساً من إمكانية أن يحقق هدفه بأي أسلوب متاح. فالإضراب عن الطعام كوسيلة احتجاج ومقاومة ربما كان أسمى عشقاً للحياة، وأرق شعوراً بها وطموحاً أقوى في عيشها بما يليق بها. فالمحتج على سلب حق، أو حتى إهانة كرامة، والمقاوم لظلم وعدوان وقمع إنما لا يريد إلا أن يحيا الحياة كما أرادها خالقه له: إنسانية كريمة، وليس كالبهائم يأكل ويشرب ويشبع بقية غرائزه الحيوانية. وأتصور أن المضرب عن الطعام إنما يجعله صومه أكثر رقاقة وشفافية وإنسانية، وإذا لم يفده صومه في تحقيق مطلبه برد حقه أو دفع الظلم أو القمع عنه فقد كسب أن شفت روحه وقرر بإرادته أن يحيا شفافا ما طال صومه أو حتى لو توفاه ربه.
لم يكن النضال بالجوع، أي الإضراب عن الطعام، بمثل هذا الشيوع في منطقتنا قبل عقود قليلة. ففي ظل وجود الاستعمار وقمعه العسكري لشعوب المنطقة لم يكن مجديا لمقاومته سوى الكفاح المسلح، وان تمكن غاندي بالمقاومة السلبية من التعجيل باستقلال الهند عن التاج الإمبراطوري البريطاني. وفي الوقت الذي تكافح فيه شعوب وجماعات من اجل الاستقلال ومقاومة عدو محتل أو البناء بعد الاستقلال لا تجد أساليب الاحتجاج والتعبير تتصاعد إلى حد النضال بالجوع.
أما وقد استقلت دول المنطقة، أو أغلبها، وتطورت مجتمعاتها بشكل أو بآخر، فقد أصبحنا نرى المظاهرات والاعتصامات وغيرها من أشكال الاحتجاج والتي غالبا ما تقابل بالعنف من السلطات وترسانة القوانين المقيدة لحرية التعبير. وفي السنوات الأخيرة تصاعدت أشكال الاحتجاج على قمع السلطات للحريات وعلى الاعتقال التعسفي لأصحاب الرأي وضد الانتهاكات الأخرى لحقوق البشر في بلاد المنطقة. وأصبحنا نرى مظاهرات واحتجاجات وحتى إضرابات عن العمل، تتباين من بلد إلى الآخر كما تتباين ردود فعل السلطات عليها من نظام إلى آخر.
وبقي النضال الفلسطيني سباقاً في كل هذا، ففلسطين هي البلد الوحيد في المنطقة الذي كان يجري احتلاله استيطانياً بينما بقية دول المنطقة تتجه نحو الاستقلال. ونتيجة عنصرية الصهاينة ودمويتهم في محاولة اقتلاع شعب من أرضه، ومع افتقار هذا الشعب للقوة العسكرية وتخاذل الجوار – المشغول في استقلاله أولاً ثم بأوضاعه الداخلية فيما بعد – لم يكن أمامه سوى ابتكار أساليب للمقاومة من مسيرات وأشكال احتجاج عامة كالانتفاضة ثم استخدام الحجارة والمقاومة بالأجساد. وفي الحالة الفلسطينية يكون الإضراب عن الطعام مرحلة وسط بين أشكال نضال أخرى أقل وأشد.
الملاحظ في الأغلب أن النضال بالجوع يكون ضد سلطة غاشمة لا تستجيب لصوت العقل ولا يؤمل أن تحترم حقوق البشرـ وهنا يكون الصوم رداً إنسانياً بليغاً فإما يضطر الظالم إلى العدول عن ظلمه أو ينهي حياة المظلوم بشكل يراه كريما.
وفي الآونة الأخيرة شهدنا في بلادنا إضرابات عن الطعام تجاوزت بكثير حالات شهيرة في تاريخ الكفاح الإنساني. فأشهر من أذكر من المناضلين بالجوع في أيامنا المعاصرة هو بوبي ساندز، الايرلندي الذي توفي في المعتقل البريطاني بعد إضرابه عن الطعام لمدة 62 يوماً في الثمانينات، ولفت أنظار العالم إلى عدالة قضية قومه في ايرلندا الشمالية.
أما اليوم فعندنا في سجون ومعتقلات الصهاينة في فلسطين بدأ ألف وخمسمئة أسير فلسطيني إضرابا عن الطعام منذ يوم الأربعاء الذي وافق يوم الأسير. ويمثل هؤلاء حوالي ثلث المعتقلين في سجون الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، وقد انضموا إلى أسيرين تجاوزا في إضرابهما عن الطعام الشهر ونصف.
والمطلب الرئيسي للأسرى الفلسطينيين هو وقف سياسة الاعتقال الإداري – وهو إجراء قمعي يتجاوز به الصهاينة كل القوانين والأعراف الإنسانية (ويظل البعض من العرب المعتوهين يعتبرونهم واحة الديموقراطية في المنطقة). وللأسرى المناضلين بالجوع مطالب أخرى تتعلق بتحسين شروط الاعتقال. إنما النضال بالجوع في رأيي هو أكثر أشكال النضال البشري السلمي سموا ورقياً للمحتج والمقاوم المضرب عن الطعام وللإنسانية جمعاء.
كاتب وصحفي عربي
صحيفة الوطن العمانية
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

الأورومتوسطي: إسرائيل تمارس حرب تجويع شرسة في قطاع غزة
غزة- المركز الفلسطيني للإعلام أكد المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، أن الهجوم الإسرائيلي المتواصل والحصار الخانق والنقص الحاد في الإمدادات...

550 مسؤولا أمنيا إسرائيليا سابقا يطالبون ترامب بوقف الحرب بغزة
القدس المحتلة – المركز الفلسطيني للإعلام طالب مئات المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين السابقين الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالعمل على وقف الحرب في...

حماس تدعو للنفير لحماية الأقصى بعد محاولة ذبح القرابين
القدس المحتلة – حركة حماس قالت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، إن محاولة المستوطنين ذبح قربان في المسجد الأقصى يعد تصعيداً خطيراً يستدعي النفير...

مؤسسات الأسرى: تصعيد ممنهج وجرائم مركّبة بحق الأسرى خلال نيسان الماضي
رام الله - المركز الفلسطيني للإعلام واصلت سلطات الاحتلال الإسرائيلي خلال شهر نيسان/ إبريل 2025 تنفيذ حملات اعتقال ممنهجة في محافظات الضفة الغربية،...

إضراب جماعي عن الطعام في جامعة بيرزيت إسنادًا لغزة
رام الله- المركز الفلسطيني للإعلام أضرب طلاب ومحاضرون وموظفون في جامعة بيرزيت، اليوم الاثنين، عن الطعام ليومٍ واحد، في خطوة رمزية تضامنية مع سكان...

القسام تفرج عن الجندي مزدوج الجنسية عيدان ألكساندر
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أفرجت كتائب الشهيد عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، عند الساعة 6:30 من مساء اليوم...

خطيب الأقصى: إدخال القرابين يجب التصدي له بكل قوة
القدس – المركز الفلسطيني للإعلام استنكر خطيب المسجد الأقصى الشيخ عكرمة صبري، محاولة يهود متطرفين إدخال قرابين إلى ساحات المسجد الأقصى، معتبراً أنه...