المارد المصري يتمرد على إسرائيل

سواء كان قرار السلطات المصرية وقف تصدير الغاز إلى “إسرائيل” سياسياً، أو تجارياً، فإنه قرار شجاع يعكس حدوث تغيير كبير في مصر الثورة تجاه العلاقات مع “إسرائيل” والتطبيع الاقتصادي معها.
وهو قرار قد يكون مقدمة لإلغاء اتفاقات كامب ديفيد المهينة، أو تعديلها بما يتوافق مع المصالح المصرية على الأقل.
صحيح أن تصدير الغاز المصري إلى “إسرائيل” غير منصوص عليه في بروتوكولات الاتفاقات المذكورة، ولكن الصحيح أيضاً أن “إسرائيل” فرضت شروطها على الجانب المصري، مثلما فرضت أسعاراً متدنية للغاز المصري أقل من سعر التكلفة، وكان أمراً مؤسفاً أن يقبل النظام المصري المنهار هذه الشروط، في إطار صفقة فساد استفادت منها حفنة من رجال الأعمال يعملون كواجهات لبعض رجالات النظام المعزول.
رجال أعمال فلسطينيون تفاوضوا مع الإسرائيليين لتصدير غاز حقل غزة بموازاة خط الأنابيب المصري ذهلوا عندما علموا من نظرائهم الإسرائيليين أن الغاز المصري يباع بأسعار تقل عن الثلثين بالنسبة إلى أسعاره في الأسواق العالمية، وشعروا بصدمة اكبر عندما أرادت “إسرائيل” أن تشتري غاز غزة بالسعر نفسه، ولكنها تراجعت في فترة لاحقة وعرضت أسعاراً تزيد بمقدار الضعفين على الطرف الفلسطيني، وجرى رفضها لأنها أقل من الأسعار في الأسواق العالمية.
السفير إبراهيم يسري رفع قضية أمام المحكمة المصرية العليا بإيقاف تصدير الغاز المصري ل”إسرائيل”، وتكللت جهوده بإصدار حكم لصالحه، ولكن حكومة الرئيس حسني مبارك لم تطبق الحكم القضائي، ولم توقف تصدير الغاز ل”إسرائيل” بالتالي.
الشعب المصري يعارض بيع غازه إلى الإسرائيليين بأسعار زهيدة، بينما يشتري قوارير الغاز بأسعار مرتفعة للغاية، بل إن البلاد شهدت في الأسابيع الأخيرة أزمة طاحنة لاختفاء الغاز من الأسواق، أي أن الإسرائيليين يتمتعون بالغاز المصري الرخيص بينما يعاني المصريون من انقطاعه عنهم بالكامل.
* * *
أنبوب الغاز المصري الممتد عبر سيناء إلى “إسرائيل” تعرض للتفجير أكثر من 14 مرة في أقل من عام، وفشلت كل المساعي والجهود الحكومية المصرية في حمايته، بما في ذلك حملات الاعتقال المكثفة التي استهدفت قادة القبائل البدوية وبعض الناشطين الشباب فيها، والعروض المالية المغرية التي جاءت بمثابة الجزرة لتجنيد زعماء قبليين وميليشياتهم على أمل تأمين الخط المار وسط أراضيهم.
أفيغدور ليبرمان وزير الخارجية الإسرائيلي وصف قرار إلغاء ضخ الغاز إلى “إسرائيل” بأنه مؤشر خطير للغاية لا يبشر بالخير، ولكن ليبرمان الشهير بتهديداته لمصر ونسف سدها العالي كان مثل الحمل الوديع وهو يطلق فتواه التشاؤمية هذه، بينما ابتلع رئيسه بنيامين نتنياهو لسانه وامتنع عن إطلاق تصريحات تصعيدية ضد مصر كرد فعل على هذا القرار.
الإسرائيليون يرتعدون خوفاً من العملاق المصري الذي خرج من قمقم الإذلال، إلى فضاء الكرامة، عبر ثورته المجيدة، لأنهم يدركون جيداً أن أي حكومة مصرية جديدة تنطلق من رحم البرلمان المنتخب وتحظى بدعمه وتأييده لن تقبل بالإملاءات الإسرائيلية والأمريكية، على غرار ما كان يفعل النظام السابق الفاسد والديكتاتوري.
انتقال مصر من دور الحليف الذليل التابع، مثلما كان عليه الحال في عهد الرئيس حسني مبارك وبطانة الفساد التي كانت تحيط به، إلى دور الدولة الرائدة التي تتعاطى مع الإسرائيليين بمبدأ الندية والمعاملة بالمثل والحفاظ على السيادة الوطنية، سيكلف الميزانية الإسرائيلية حوالي ثلاثين مليار دولار إضافية سنوياً، بالإضافة إلى تغيير استراتيجيتها العسكرية كلياً.
فعندما يقول ليبرمان إن مصر أخطر من إيران فإن هذا اعتراف مصيب. فمصر هي التي قادت جميع حروب العرب الرسمية ضد “إسرائيل”، وهي التي عمقت عزلتها الدولية عندما كانت تُحكم من قبل أنظمة وطنية تضع الأمن القومي المصري فوق كل الاعتبارات الأخرى.
وفي الوقت الذي كانت تلتزم فيه حكومة الرئيس مبارك بتنفيذ كل بنود اتفاقات كامب ديفيد، وتغض النظر عن المجازر والحروب الإسرائيلية في قطاع غزة ولبنان، كانت “إسرائيل” تتآمر على مصر وتعمل على تهديد أمنها المائي الاستراتيجي، بتحريض دول مثل أثيوبيا وأوغندا على تحويل مياه النيل من خلال إقامة السدود، وتفكيك الاتفاقات الموقعة التي تعطي كلا من مصر والسودان نصيب الأسد من هذه المياه.
أليس من العار أن تحرم “إسرائيل” مصر من إرسال قواتها ودباباتها إلى كامل أراضي سيناء بذريعة فرض احترام اتفاقات كامب ديفيد، بينما تعمل هي على غزو قطاع غزة الذي كان خاضعاً للحاكم الإداري المصري ساعة احتلاله عام 1967، وتقتل 1400 من أبنائه دون رحمة ودون أن تحرك حكومة مبارك ساكناً، بل تتواطأ مع هذا العدوان من خلال إحكام إغلاق حدود القطاع ومنع أي مساعدات للوصول إلى المحاصرين المجوعين داخله، أو السماح لهم بالنجاة بأرواحهم مثلما تفعل تركيا والأردن ودول أخرى مع اللاجئين السوريين؟
هذا القرار الشجاع ما كان سيصدر لولا موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية ورئيسه المشير علي حسين طنطاوي الذي أطلق تهديده بكسر رجل كل من يقترب من حدود مصر، في أشارة واضحة إلى الإسرائيليين.
سبحان مغير الأحوال، المشير طنطاوي يهدد بكسر أرجل الإسرائيليين، بينما كان السيد احمد أبو الغيط وزير خارجية حسني مبارك يهدد بكسر أرجل وأيادي أبناء غزة المحاصرين المجوّعين إذا ما تجرأوا على اقتحام الحدود المصرية بحثا عن رغيف خبز أو علبة حليب لأطفالهم.
* * *
مصر تغيرت فعلاً، وستتغير أكثر باتجاه استعادة مكانتها الإقليمية والدولية، والفضل في ذلك يعود إلى شعبها الشجاع الذي قاوم ولأكثر من ثلاثين عاماً كل عمليات التطبيع، ولم يتخلَ مطلقاً عن مبادئه الوطنية، وهويته العربية الإسلامية، وكراهيته ل”إسرائيل” ومجازرها وغطرستها ضد أشقائه الفلسطينيين واللبنانيين.
الثورة المصرية ما زالت بخير، تحقق الانجاز بعد الآخر، وتفاجئنا يومياً بصمودها وتحديها رغم مؤامرات الفلول وأنصارهم في الولايات المتحدة الأمريكية، وبعض الدول العربية التي تتآمر لإجهاض الثورات العربية. وخروج مليون إنسان يوم الجمعة الماضي للدعوة إلى انتقال السلطة إلى حكم مدني هو الرد على هؤلاء جميعاً ومؤامراتهم.
يشعر العرب، وخصوصا المصريين، بسعادة عامرة وهم يرون حالة الهيستيريا التي تسود “إسرائيل” حالياً بسبب الخوف من التغيير المتسارع في مصر، بعد أن كانت “إسرائيل” هي التي تبث الرعب في قلوبنا بغطرستها وتعنتها وتهديداتها المتواصلة للعرب، ونسفها بشكل وقح للعملية السلمية.
لا بد أن الولايات المتحدة التي اسـتثمرت الكثــــير من الجهـــد والمال لتعــــزيز مقــاومة اتفاقات كامب ديفيد للرفض الشعبي المصري، ستشعر بقلق أكبر وهي ترى مصر تخرج من تحت عباءة نفوذها تدريجياً. وهو خروج قد ينهي هيمنتها على المنطقة واحتياطاتها النفطية الهائلة ولمصلحة قوى عظمى جديدة صاعدة مثل الصين والهند وروسيا.
مصر هي الأكثر تأهيلا لقلب كل معادلات القوة الاستراتيجية في المنطقة، وبما يخلق مشروعا عربيا متكاملا يوحد الأمة، ويحقق التوازن مع المشاريع الأخرى التركية والإيرانية والإسرائيلية.
أهلاً بمصــــر قـــوة رائدة قائدة تقود السفينة العربية إلى بر الكرامة والعزة والأمان.
Twitter:@abdelbariatwan
صحيفة القدس العربي اللندنية
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

الأورومتوسطي: إسرائيل تمارس حرب تجويع شرسة في قطاع غزة
غزة- المركز الفلسطيني للإعلام أكد المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، أن الهجوم الإسرائيلي المتواصل والحصار الخانق والنقص الحاد في الإمدادات...

550 مسؤولا أمنيا إسرائيليا سابقا يطالبون ترامب بوقف الحرب بغزة
القدس المحتلة – المركز الفلسطيني للإعلام طالب مئات المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين السابقين الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالعمل على وقف الحرب في...

حماس تدعو للنفير لحماية الأقصى بعد محاولة ذبح القرابين
القدس المحتلة – حركة حماس قالت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، إن محاولة المستوطنين ذبح قربان في المسجد الأقصى يعد تصعيداً خطيراً يستدعي النفير...

مؤسسات الأسرى: تصعيد ممنهج وجرائم مركّبة بحق الأسرى خلال نيسان الماضي
رام الله - المركز الفلسطيني للإعلام واصلت سلطات الاحتلال الإسرائيلي خلال شهر نيسان/ إبريل 2025 تنفيذ حملات اعتقال ممنهجة في محافظات الضفة الغربية،...

إضراب جماعي عن الطعام في جامعة بيرزيت إسنادًا لغزة
رام الله- المركز الفلسطيني للإعلام أضرب طلاب ومحاضرون وموظفون في جامعة بيرزيت، اليوم الاثنين، عن الطعام ليومٍ واحد، في خطوة رمزية تضامنية مع سكان...

القسام تفرج عن الجندي مزدوج الجنسية عيدان ألكساندر
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أفرجت كتائب الشهيد عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، عند الساعة 6:30 من مساء اليوم...

خطيب الأقصى: إدخال القرابين يجب التصدي له بكل قوة
القدس – المركز الفلسطيني للإعلام استنكر خطيب المسجد الأقصى الشيخ عكرمة صبري، محاولة يهود متطرفين إدخال قرابين إلى ساحات المسجد الأقصى، معتبراً أنه...