الأحد 11/مايو/2025

مأثرة غونتر غراس الجريئة

مأثرة غونتر غراس الجريئة

لا يكف الكاتب والشاعر الألماني المعروف غونتر غراس عن إثارة العواصف من حوله كلما خطر للآخرين أن جعبته قد نفدت من المواقف الصادمة والسجالات المثيرة للجدل. والحقيقة أن صاحب “الطبل الصفيح” لا يفتعل تصريحاته ومواقفه بغية البقاء في دائرة الضوء وإشغال الناس به، بل هي تصدر عن قناعة راسخة لدى غراس بدور المثقف الفاعل في دفع الظلم والقهر عن البشر، أياً كانت أعراقهم وجنسياتهم.
وهو في ذلك يتصادى مع فكرة الالتزام التي نادى بها جان بول سارتر في أواسط القرن الماضي ويعارض مبدأ المثقف “التقني” الذي لا يجدر به أن يتجاوز اختصاصه أو يتدخل في ما لا يعنيه، وفق ما يراه البعض. كأن المثقف بحسب هؤلاء ليس سوى منتج للسلع المعرفية التي تتساوى في الأهمية والدور مع أية سلعة استهلاكية أخرى.
لم تكن القصيدة الأخيرة التي كتبها غونتر غراس تحت عنوان “ما يجب أن يقال” تحفة أدبية بالمفهوم الإبداعي للكلمة. ولا أعتقد أن الكاتب الألماني سعى إلى رفد منجزه الشعري السابق بنقلة جديدة عبر قصيدته تلك، بل كان يريد أن يطلق على طريقته صرخة احتجاج عاتية على فظاظة العالم المعاصر واختلال منظومته القيمية التي لا ترى الأمور بعين العدل والمساواة، بل بعين التعصب والجور والانحياز.
لم يستطع غراس أن يغض النظر عن محاباة الغرب الأمريكي والأوروبي ل”إسرائيل” والتعامي عن ترسانتها النووية الهائلة، في ما يقيم هذا الغرب الدنيا ولا يقعدها حول المشروع النووي الإيراني الذي لم تتضح حدوده بعد. والغرب يرى في المشروع الأخير تهديداً سافراً لسلام العالم، بينما ينظر بعين الرضا والمحاباة إلى أسلحة الدمار “الإسرائيلية” الفتاكة كنظرته إلى احتلالها المزمن لفلسطين ولأراض عربية مجاورة.
قد يقول قائل: ولكن مثل هذه المواقف ليست من شأن الشعر واختصاصه، بل من شأن البيانات السياسية والخطب الرنانة، وإن غراس كان قادراً على إطلاق أفكاره تلك من خلال مقالة أو تصريح سياسي. وأنا لا أعترض على مثل هذا التحفظ المتصل بالقيمة الفنية والجمالية للقصيدة، ولكن ذلك لا يلغي فعالية الشعر العالية في هز المشاعر والتأثير في النفوس، وبخاصة من كاتب عالمي حائز جائزة نوبل للآداب من وزن غونتر غراس. فصاحب “قشرة البصل” يعرف في أعماقه أن قدرة القصيدة المنظومة على التأثير والفعالية وسهولة الحفظ والتناقل تفوق بكثير قدرة المقالة النثرية العادية، ما دفعه من دون شك إلى اختيار الشعر دون سواه لإطلاق مواقفه المدوية.
ثم إن ما حدث ليس جديداً في بابه على الإطلاق، حيث يمكننا في هذا السياق أن نتذكر قصائد شعراء تجديديين ورواد في الحداثة، من أمثال لويس أراغون وبول إيلوار وبابلو نيردوا وناظم حكمت، استطاعت بفعل وضوحها وقوتها التحريضية أن تتحوّل إلى أغانٍ وأناشيد على ألسنة المكافحين ضد النازية والفاشية وقوى الاستبداد في بقاع الأرض. وناظمو هذه القصائد يعرفون قبل بنيامين نتنياهو، الذي انتقد رداءة قصيدة غراس كما انتقد من قبل قصيدة “عابرون في كلام عابر” لمحمود درويش، أن قصائدهم تلك لن تصمد أمام الزمن لأن لها غايات وأهدافاً تعبوية مباشرة.
وما حدث من جهة ثانية ليس جديداً على سيرة غونتر غراس وتاريخه الحافل بالمواجهات مع سلطات القمع المختلفة. ولعل أبلغ دليل على نبل الكاتب وجرأته البالغة هو ما حدث له مع الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح في صنعاء قبل عقد من الزمن، ففي أحد المؤتمرات الأدبية التي ضمت شعراء وكتّاباً معروفين عمد الرئيس اليمني إلى استثمار المناسبة على الصعيد الدعائي فأجلس محمود درويش عن يساره وغونتر عن يمينه عارضاً على الأخير منحه وسام الاستحقاق اليمني من الطراز الأول، إلا أن صالح بوغت تماماً حين جُوبه من قبل غراس بالاعتذار عن قبول الوسام ما لم تكف الأجهزة اليمنية عن ملاحقة الكاتب اليمني وجدي الأهدل بسبب روايته “قوارب جبلية” التي اعتبرت مسيئة للسلطة الحاكمة آنذاك، وقد أسقط في يد الرئيس المتباهي بقوته المطلقة بفعل عنصر المباغتة غير المحسوبة من قبل الكاتب الألماني واضطر للموافقة على المقايضة الغريبة تلك.
وبعد ذلك بأعوام وقّع غراس على العريضة التي رفعها كتّاب وشعراء ليبيون معارضون لسلطة القذافي والتي طالبت بإخراج السجناء ومعتقلي السياسة والفكر من زنازين الحاكم الليبي وأقبيته المعتمة.
إنه لأمر مستهجن تماماً أن يسدد البعض سهام نقدهم ضد المستوى الرديء لقصيدة غراس متناسين أن القصيدة، على هشاشتها الجمالية، كانت السهم الأكثر قدرة على إصابة “الإسرائيليين” في صميمهم وعلى تمريغ غطرستهم في التراب. وما القرار الهستيري الذي اتخذوه بمنع الكاتب الشجاع من زيارة “إسرائيل” سوى وسام إضافي يعلقه غونتر على صدره ليكون أمثولة حقيقية لكل مَنْ يرى في الكتابة الإبداعية الوسيلة الأنجع لإرساء قيم العدالة والتنوير ودفع الحياة خطوات حثيثة إلى الأمام.
صحيفة الخليج الإماراتية

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات