السبت 10/مايو/2025

المقاومة المدنية فلسطينياً.. نقطة نظام

المقاومة المدنية فلسطينياً.. نقطة نظام

التوافق الذي جرى أخيراً بين الفصائل والقوى السياسية الفلسطينية، على انتهاج المقاومة الشعبية اللاعنفية ضد الاحتلال الإسرائيلي، أعاد التناظر الفكري الثقافي واسع النطاق، الذي واكب الانتفاضتين الكبريين حول جدوى هذا النمط من المقاومة في إنجاز الاستقلال الوطني.

في غمرة هذا التناظر، انبرى بعض الأكاديميين والشراح إلى مدارسة التجارب التاريخية للاعنف، بين يدي نضالات شعوب وحركات تحرر أخرى.. قاصدين بذلك إثراء التوجه الفلسطيني بزاد نظري وتطبيقي معتبر، عبر الإطلال على السوابق المشابهة، التي بلغت بأصحابها مراداتهم في إجلاء المستعمرين. وباعتبارها الأشهر تاريخياً، فقد حظيت التجربة الهندية بزعامة المهاتما غاندي والذين معه في مواجهة الاستعمار البريطاني، بالحظ الأوفر من هذه الإطلالات.

وشغلت مساحة أقل نسبياً من السجال، نماذج أخرى، كحركة مارتن لوثر لتحصيل الحقوق المدنية للسود والملونين في الولايات المتحدة، وخبرة نلسون مانديلا لمقاومة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وثورات شرق أوروبا البيضاء لإزالة النظم الشمولية. لا ريب في أن مساهمة الجماعة البحثية العلمية في تبصير القوى السياسية وصناع القرار.

والمجتمع بعامة، بالأبعاد والتداعيات المختلفة لما هم مقبلون عليه من خيارات وتوجهات، أمر في غاية النبل. فبمثل هذا يكون توظيف العلم لما ينفع ويمكث في الأرض، ولمثل هذا التساند والتآزر فليعمل أهل الفكر، بالتعامد والتعاون مع أهل الفعل.

غير أن هذا النفع يضمحل كثيراً وقد ينقلب إلى ضده، حين يجري استلهام الخبرات والنماذج من عوالم الآخرين، دون التدبر في كثير من الفروقات والمعطيات المحددة لها، والاحتياط من أخطار إسقاطها خطياً وبشكل مباشر على واقع مغاير. ونحسب أن نفراً من الجماعة البحثية الأكاديمية الفلسطينية، يوشكون على الوقوع في هذا المحذور. ومع تقديرنا الشديد لنماذج المقاومة اللاعنفية الإلهامية التي تتردد أصداؤها وسيرها في الأدبيات الفلسطينية.

إلا أننا لا نظن أنها تقدم جميعها دليلًا كافياً أو خريطة طريق مناسبة، يمكن للحالة الكفاحية الفلسطينية أن تستهدي بها أو تحاكيها على طول الخط. بين يدي هذا التقدير، لنا أن نلاحظ، مثلًا، أن التجربة الهندية اشتقت لمقاومة استعمار استغلالي بالكامل، وليس استعماراً استيطانياً إحلالياً؛ ذا جذور وروايات ذرائعية روحية دينية بالغة التعقيد.

كما هو شأن المثل الصهيوني الإسرائيلي في فلسطين وجوارها. ثم إن الحالة الهندية تخالف الحالة الفلسطينية من حيث المعادلة السكانية.. فأقصى تواجد للقوات البريطانية في الهند لم يتجاوز المئتي ألف عدداً، وحتى لو كان هذا العدد بلغ عشرة أمثاله، فأين هو من زهاء أربعمئة مليون هندي في ذلك الحين؟!

أيضاً، هناك فوارق من حيث البنية الاقتصادية، وطبيعة العلاقة بين القوة الاستعمارية والشعب الخاضع للاستعمار. ففي النموذج الهندي بدا بعض أدوات اللاعنف، كالمقاطعة واللاتعاون والاعتماد على المنتج الوطني، مجدية في إيلام العدو إلى الدرجة التي قيل عندها إن الاحتلال المباشر لم يعد مشروعاً مربحاً لكن فعالية هذه الأدوات ذاتها، تظل في المثل الفلسطيني موضوعاً للجدل وربما للشك، ذلك أن “إسرائيل” وإن كان احتلالها للأرض الفلسطينية يعود عليها ببعض الفوائد الاقتصادية، إلا أن بوسعها الاستغناء عن هذه الميزة، كما أن عامل الاستغلال الاقتصادي لا يعد محدداً جوهرياً في ديمومة هذا الاحتلال. إلى ذلك، ثمة شكوك قوية في جدوى التطبيق الفلسطيني للعصيان المدني ضد إسرائيل. ندفع بهذا التصور .

وفي الخاطر أن الفلسطيني قد يجبر على طلب العمل في “إسرائيل”، بالنظر لغياب مصادر أخرى لكسب القوت.. بل وربما أكره، بحكم واقعه الاقتصادي المؤلم، على العمل في بناء المستوطنات التي تتمدد على وطنه. وفي السياق ذاته، لا يمكن التهوين من تأثير الانفصال الشكلي الذي جرى على الأرض بين رموز الاحتلال الإسرائيلي وسواد الشعب الفلسطيني، بفعل اتفاق أوسلو وتوابعه..

فهذا الانفصال أدى إلى صعوبة، ولعلها استحالة، تطبيق بعض أهم أدوات اللاعنف، كعدم إطاعة الأوامر واللا تعاون واستخدام الحجارة والاحتجاج اللاعنيف والإضرابات والمضايقات والتظاهر المؤثر..

هناك اليوم مسافة بين الطرفين لا تسمح بتفعيل مثل هذه الأدوات، على النحو الذي كانت عليه الحالة الهندية أو حتى حالتا المقاومة الحقوقية اللا عنفية في جنوب إفريقيا والولايات المتحدة.

ويعتمد بعض أصداء المقاومة اللاعنفية ومردوداتها، على ما تثيره من تعاطف لدى قطاعات في مجتمع العدو ذاته، وكلما توفر هذا المجتمع على جماعات ذات ثقافة إنسانية وحقوقية مرهفة، تضاعفت الضغوط على النخب الحاكمة لاتخاذ قرارات تقصر أجل احتلال الشعب المقاوم. هذا ما حدث في إطار النموذج الهندي؛ حين تمكن غاندي من قلوب وعقول ملايين البريطانيين، ونظر إليه كثير من الأوروبيين باحترام وتبجيل بالغين. فأين هذا مما يجري في النموذج الإسرائيلي.

[email protected]

 صحيفة البيان الإماراتية

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات