السبت 10/مايو/2025

رحلت جَدّة النكبة

رحلت جَدّة النكبة

قضية فلسطين حكاية جغرافيا وتاريخ. الأول يتعرّض للتمزيق والثاني يقبع تحت مطرقة التطويع وإعادة القولبة والطعن بسكين يحملها بعض من يسمون أنفسهم مثقفين. في مقالة سابقة عن النكبة خانني التعبير إذ أبعدتني وطأة الشجن وجروح الأشقاء عن جوهر النكبة. قلت إن الجيوش العربية طلبت من الفلسطينيين الخروج، وكنت أعني أنه من رحم الآمال التي عُلّقت عليها ولد الاعتقاد بأن الغياب لن يتعدى الأسابيع.

الجيوش العربية لم تطلب من الفلسطينيين المغادرة، لكنّها لم تكن بمستوى التصدي للمأساة مع إدراكنا أنها لم تكن صاحبة قرار سياسي. علينا دائماً أن ندرك أن الإنسان، على نحو عام، لا يخرج من وطنه بأوامر أو طلب من أحد، والفلسطينيون الذين انتقلوا إلى خيام اللجوء، لم يغادروا بإرادتهم، بل شردهم الغزاة بالمجازر والترويع والاقتلاع المدعوم بمؤامرة دولية وتواطؤ بعض العرب وبعض الجهل.

وما دام الحديث لا يتعلّق بمأساة ماتت كل أجيالها، فإن للتاريخ صدقية لا طعن فيها إلا من جانب مغتصبي الرواية التاريخية ومزوّري التاريخ. فالنكبة ليست مأساة مضت عليها قرون، بل ما زال بعض شهودها على قيد الحياة والحلم، فقبل بضعة أيام فقط رحلت إحدى الشاهدات على فصول النكبة. قبل أيام ماتت فاطمة ابنة ترشيحا الفلسطينية.

كانت حالة تختزل حقبة، ومشهداً يلخّص حكاية لم تنته وعرساً ما زال يبحث عن الفرح. رحلت جدة النكبة عن الحياة بعدما رفضت الرحيل عن وطنها، تحت وطأة النكبة وقصف الطائرات الصهيونية الذي أقعدها في الفراش أربعاً وستين سنة، كابدتها من أجل الحياة من على سريرها. ثلاث طائرات قصفت منزلاً واحداً هو منزلها. هل حدث مثل هذا في أي حرب؟ قتل معظم أفراد أسرتها، لتخرج من تحت الردم وتبقى شاهدة على جريمة العصر التي ما زال العالم يتنكّر لها، وما زال العرب، أو بعضهم، يجهد لدفعها خارج الذاكرة وبعيداً عن خريطة فلسطين.

عاشت فاطمة، لتكون ذاكرة عصيّة على “الفرمتة” في جهاز الواقعية والحداثة السياسية الأشبه بالفيروس الثقافي. ظلت على قيد الحياة لتنقل إلى أحفادها عدوى الحلم بانبلاج فجر الوطن.

ابنة الثلاثة والثمانين عاماً لقّنت ايبي ناتان أحد قادة الطائرات الثلاث التي دمرت منزلها وقتلت أفراد عائلتها، درساً في قداسة الذاكرة وجبن النسيان والشرط الإنساني للتسامح الشخصي المرهون بعودة حقوق الوطن. لم تكترث بصحوة ناتان المتأخرة وزيارته لها قبل وفاته لطلب السماح بعد أن ارتدى متأخراً ثوب السلام وصافح من كان يقصفهم بوصفهم “إرهابيين”، قالت للطيار المعتزل “إنها لا تستطيع مسامحته لأن الشهداء وكّلوها حمل وصيّة، أول سطورها عودة الحق وآخرها حق العودة، وما بينهما خريطة وطن مثخن بجراح الأعداء وتواطؤ الأشقاء”.

حتى الرمق الأخير، تمسّكت بحق التاريخ عليها رغم أنها لم تحمل شهادة عليا في التاريخ، ودافعت عن حقوق أبناء شعبها رغم أنها لم تدرس الحقوق، ولم تفكّر في التكتيك والاستراتيجية، إذ لا تحمل لقب “مفكّر عربي” يفكّر في جيبه ويؤجّر عقله ولسانه لمن يدفع أكثر.

بعد هذا الذي يجري على مسرح الجريمة، لا مبرر لمن شارك في إضاعة الطريق في الخطوط والدوائر. قضية فلسطين، أرضها وشهداؤها ومقدّساتها في عنق كل مَنْ يحمل قلماً ولا يكتب الحقيقة، وكل مَنْ يملك لساناً ضالاً ومضللاً. وكما قال الثائر التشيكي يوليوس فوتشيك: لا عذر لمن أدرك الفكرة وتخلى عنها.

[email protected]

صحيفة الخليج الإماراتية

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات