الخميس 08/مايو/2025

الأدب الصهيوني التقدمي… خرافة

الأدب الصهيوني التقدمي… خرافة

لا يوجد شعب بلا قصص ولا أساطير. وبين السرد والإيهام، تولد قيم وأفكار ورؤى واتجاهات على ضفاف الجمال الخالص والإبداع الخلاق. وطالما كانت الفنون بمختلف ألوانها تغري أولئك الذي يرومون رفعة وتقدماً ورقيّاً في المعاش لأمة من الأمم، أو من يريدون لها أن تسير في الطريق المخالف، فتعود إلى الوراء وتسقط مذمومة مدحورة.

ولا يعني هذا أبداً أن حرف الأدب عن مساره هو عمل محمود، فإقحام الأيديولوجيات والمواقف السياسية المباشرة على الفن يضعف جماله، وينال من حلاوته وطلاوته، وقد يمتهنه وينتهك طبيعته وشكله فيحوله إلى منشور أو خطبة عصماء. ولكن هذا لا يمنع أن التمسك بالجمال الخالص يعني بالضرورة هجر المضمون أو القبول بتهافته. فمن يكتب ومن يقرأ لا يقومان بهذا الفعل في الفراغ أو يبدآن من الصفر، وإنما لكل منهما تجربة حياتية ومنظومة قيم ونسق من الأفكار وثوابت من العقائد يحيل إليها ما يبدعه وما يتلقاه ولو في اللاشعور.

وقد فطن صناع السياسات إلى قيمة الأدب في فهم نفسية الشعوب ومدى قابليتها للغزو أو قدرتها على الممانعة، فأخضعوا موروثها من الفن الشعبي وكذلك ما تنتجه نخبتها من شعر ونثر للدراسة العميقة حتى يمكن تحديد سبل التعامل معها. ولهذا درس الأميركيون آداب اليابانيين إبان الحرب العالمية الثانية، ودرس الإسرائيليون آداب العرب، وأدرك الغرب الرأسمالي أن الأدب أحد الأسباب الرئيسية لانتشار الاشتراكية في العالم من خلال تصويره أشواق الفقراء والمهمشين إلى العدالة والكفاية والمساواة، فأخذ يشجع النظريات النقدية والأعمال الإبداعية التي تنزع إلى الجمال البحت والغموض المحير.

وفي ركاب هذه التوجهات أدركت “الصهيونية العالمية” أهمية الأدب في التغلغل إلى عقل الأمم المغايرة ونفسها، قدر توسلها بالأيديولوجيات السياسية ذات الطابع الأممي لتحقيق الغرض ذاته. ولهذا ظهر ما يسمى بـ”الأدب الصهيوني التقدمي” نازعاً إلى خداع الآخرين ودفعهم إلى التسامح مع والتساهل في، والتغاضي عن التصرفات العنصرية للصهيونية في الواقع المعيش. وقد وقع فريق من اليساريين العرب في هذا الفخ وهم يدركون ما يفعلون، بينما سقط في هذه الحبائل كثيرون دون دراية ولا وعي.

وقد ظل هذا المسار محل غموض والتباس، ولم يعن به العقل العربي عناية تامة، وبات الأمر يحتاج إلى مزيد من الفحص والدرس لتبديد هذه الخرافة أو فضح هذا المخطط، بما يجلي كل شيء في أذهاننا، ويصفيه في نفوسنا، ويرسم لنا معالم طريق وسيع في التعامل مع الآداب والفنون المنتجة في “إسرائيل”، لاسيما في هذه المرحلة التي تشهد تبريراً متصاعداً لترجمة الأدب الإسرائيلي من دون تدقيق شديد بين الغث والسمين، ولا بين ما ينفعنا وما يضرنا، وما نحتاجه كي نفهم كيف يفكر الإسرائيليون وما يشغل صدورهم؟ وكيف يروننا نحن العرب؟ وكيف ينظرون إلى العالم بأسره؟ وما هي طبيعة العلاقات الاجتماعية التي تحكم حياتهم؟ وما هي رؤيتهم لمستقبل دولتهم التي زرعوها في أرضنا؟ وما حظ الفروق بين “اليهود” و”اليهودية” و”الصهيونية”.

وهذا التدقيق يحتاج إلى ما هو أعمق وأزيد من قراءة الأدب الإسرائيلي مباشرة ودون وسائط للوقوف على مضمونه ومراميه. ففي حقيقة الأمر يجب أن نقيم الدراسات التي تفكك هذا الأدب وفق الخلفيات المعرفية والأيديولوجيات السياسية والفلسفات التي تحكم عقول مبدعيه وعملية إنتاجه.

ومن هذا المنطلق تأتي أهمية دراسة الباحث القدير حاتم الجوهري التي وسمها بـ”نقد رؤية أدباء الصهيونية الماركسية للصراع العربي الصهيوني” لترمم الشروخ التي لاتزال موجودة في كثير من الدراسات العربية حول الأدب الصهيوني، وتزيل كل ما علق في الأذهان من أوهام حول إمكانية أن تكون هناك نزعة تقدمية أممية وإنسانية في هذا الصنف من الأدب، وتفضح هذا اللون من “الاحتلال الناعم” الذي يقوم به الصهاينة لعقول “الأغيار” من مختلف الثقافات والحضارات والديانات والمذاهب، وتجلي الروابط والارتباطات الخفية بين الأدب الصهيوني وكثير من نظريات وتمثلات وتطبيقات ما بعد الحداثة في الفنون والآداب والأفكار والفلسفات التي تسربت إلى الأوساط الأكاديمية في العالم وأوجدت، مع مرور الأيام، منساقين وراءها، ومدافعين عنها، وراغبين في ترسيخها وتعزيز دورها. كما تفضح هذه الدراسة مكر ودهاء منتجي هذا اللون وهم يسربون أفكارهم في نعومة وانسياب، وتتبع خطواتهم التي تتسلل خلسة إلى الفنون والأفكار.

ولم يكتف الباحث في دراسته المهمة، التي حاز بها درجة الماجستير في الأدب العبري الحديث من جامعة عين شمس، بالجوانب النظرية، بل التقط بعناية ودراية فائقة واحداً من الأدباء الذين ينتمون بقوة إلى هذه الظاهرة وأخضع إنتاجه لاختبار المقولات والافتراضات التي تبنتها الدراسة، ألا هو الشاعر يتسحاق لاءور، الذي قامت على كتفيه دورية فصلية تحمل اسم “ميتعم” لم يمض وقت طويل على صدروها حتى باتت المنبر ذائع الصيت لأدباء ونقاد “اليسار الماركسي”. ولعل دراسة الحالة تلك أعطت البحث عمقاً، ومكنته في إيجاد البراهين الناصعة والحجج الساطعة على التصورات التي انطلق منها، والتي لم تخف كراهية وغيظاً وعداء لظاهرة “الأدب الصهيوني التقدمي” الملغزة والغامضة والمسكونة بالتوجس والخطرة.

ويحمد للباحث أنه لم يذهب مباشرة إلى الدراسة التطبيقية، بل وصل إليها عبر طريق وسيع شقه بفهم وإدراك وانحياز تام إلى الحق والحقيقة مارّاً بمحطات مهمة كشف فيها جذور ومبادئ “الصهيونية الماركسية” وخرافة التقدمية، حيث تتبع ظروف نشأتها، ووقف على أسباب تحول اليسار اليهودي نحو فكرة “القومية الصهيونية” في أوروبا وخارجها، وموقع الدين منها، وتوزعها على الأفكار الليبرالية والماركسية والاشتراكية، ومسارات مستقبلها، وخطيئة هذا اليسار حيال “المسألة الفلسطينية”، ثم موقف اليسار العالمي والعربي من نظيره الصهيوني. ثم انطلق من هذا الفضاء العام إلى مجال أكثر تخصيصاً وتحديداً فدرس “البناء النظري للأدب الصهيوني” ليشرح سماته وتوزعه على القومي والسياسي والملحمي والعالمي، ويرسم ملامح نزعته التبشيرية والموجهة، ويبين القضايا الرئيسية التي تشغله وهي تبرير فكرة الصهيونية، والشكوى من الاغتراب والبحث عن الخلاص، وصراع الهوية وتشتت الولاء، ورسم حدود العلاقة بين الصهاينة و”الآخر”، والانشغال بفكرة “أرض الميعاد” والموقف من التراث والدين والحرب والسلام. ويمر الباحث على موضوع استعمال الأدب الصهيوني وتوظيفه كأداة للحرب، والمسار الذي سلكته الفكرة الصهيونية في الأدب العبري المعاصر.

لقد سبق أن اطلعت على كثير مما أنتجه عبدالوهاب المسيري ورشاد الشامي وحسن ظاظا وغيرهم حول “الصهيونية” وهو يشكل أرضية صلبة لقيام دراسات تفصيلية وفرعية حول هذه الظاهرة، بحيث نقف عليها من شتى جوانبها، ونكشف ألاعيبها المتجددة التي لا تنتهي، ونحوز حصانة ومنعة حيالها، ونمتلك سبل مواجهتها ومهاجمتها في عقر دارها، فنصدرها ونردها خاسرة

صحيفة الاتحاد الإماراتية

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات