الخميس 08/مايو/2025

فرص التسوية… بين المثالية والواقعية!

فرص التسوية… بين المثالية والواقعية!

قبل نحو خمس سنوات أصدر الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر كتاباً تحت عنوان: “فلسطين: السلام وليس الآبرتايد”، اتهم فيه “إسرائيل” بخلق ودعم نظام يشبه نظام الفصل العنصري السابق في جنوب إفريقيا، وكتب كارتر مؤكداً أن “الفلسطينيين محرومون من أبسط حقوق الإنسان… وأن استمرار سيطرة الدولة العبرية واحتلالها للأراضي الفلسطينية يشكل العقبة الكأداء أمام تحقيق السلام الشامل”.

والحقيقة أن ما جاء في كتاب كارتر لم يكن جديداً أو غير معروف، ولاسيما أن تقارير كثيرة دبجتها منظمات حقوقية دولية، بما فيها منظمات إسرائيلية، كانت قد أشارت أكثر من مرة إلى فظاعة واقع الاحتلال الإسرائيلي ووثقت التجاوزات الكثيرة التي اقترفتها الحكومات الإسرائيلية، بل إن ما قاله كارتر من تهديد الاستيطان لحل الدولتين يمثل في الواقع الموقف الرسمي الذي تبنته الإدارات الأميركية على مر السنوات ولا يحمل أي خروج عن المنطق، أو تجاوز لما هو مطروح.

وقد سبق للهيئة القضائية الأعلى التي يحتكم إليها المجتمع الدولي ممثلة في محكمة العدل الدولية أن أصدرت قرارها في عام 2004 مؤكدة أن “المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، تعتبر غير شرعية وتحول دون تحقيق السلام… وقد أقيمت في انتهاك واضح للقانون الدولي”.

ولكن مع ذلك أثار كتاب كارتر حينها ضجة كبرى في إسرائيل وكان محل انتقادات حادة من الجماعة المؤيدة ل”إسرائيل” في الولايات المتحدة التي سارعت إلى اتهام كارتر بتزييف الحقائق وشيطنة “إسرائيل”، كما لم يسلم كارتر نفسه من انتقادات بعض الساسة الديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء، فيما استقبل كتابه بفتور شديد في الإعلام الرسمي بأميركا الذي كان يتجاهل صدوره من الأساس.

بيد أن الأهم في كتاب كارتر مع ذلك ليس ما جاء فيه بل الشخص الذي كتبه، فلو سُمح لشخص مثل كارتر،أن يلعب دوراً أساسيّاً في الدفع لإنجاز اتفاقية كامب ديفيد في عام 1978 بين إسرائيل ومصر، بالانشقاق عن الإجماع المؤيد ل”إسرائيل” في المؤسسة الرسمية الأميركية فسيكون ذلك سابقة هي الأولى من نوعها مما قد يهدد بتوالي انشقاقات أخرى في هذه المؤسسة، وتنديدات متعاقبة بسياسة الاحتلال الإسرائيلي.

وقد عانى أوباما من ضغوط مشابهة عندما حاول في البداية الالتزام بحل سلمي لقضية الشرق الأوسط فسعى في خطابه بالقاهرة عام 2009 إلى الموازنة بين التعهد بحماية إسرائيل والاعتراف بمعاناة الفلسطينيين، ولكن المواجهة الحقيقية بين أوباما وإجماع المؤسسة الرسمية في أميركا جاء عندما صرح أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بأن الشعب الأميركي لا يساند شرعية المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وطلب من “إسرائيل” علناً وقف بناء المستوطنات، ومع ذلك تحدى نتنياهو، مطلب أوباما ورفض تمديد تجميد الاستيطان لاستئناف المفاوضات مع الفلسطينيين. وجاء امتحان آخر لأوباما عندما اقترح مطلع السنة الماضية انطلاق المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية على أساس حدود عام 1967، وحينها تحدى نتنياهو مرة أخرى الرئيس الأميركي عندما رفض اقتراحه قائلاً إن حدود عام 1967 لا يمكن الدفاع عنها فيما أوباما واقف إلى جنبه يحاول الحفاظ على هدوئه وابتلاع التحدي.

ولكن مع انعقاد الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر سبتمبر الماضي كان أوباما قد تبنى مواقف الطرفين، فمن جهة انخرط في الإجماع المؤيد لإسرائيل بالولايات المتحدة الذي تمثله منظمه “آيباك” المعروفة بمساندتها لسياسة الاستيطان الإسرائيلية مع حديث مكرور وغير صادق عن حل الدولتين، ومن جهة أخرى الانخراط في المواقف الفلسطينية المستندة إلى القانون الدولي ومبادئ العدالة.

وكان الخيار واضحاً أمام أوباما بين الواقعية السياسية والمثالية، فالأولى ستدعم مؤهلاته وتدفع عنه انتقادات مؤيدي “إسرائيل” الكثر في أميركا التي قد تضر بحظوظ إعادة انتخابه رئيساً، وأما الثانية فتشبه ما بدأ به أوباما ولايته الرئاسية، ولكنها قد لا تحرك الناخب الأميركي لمصلحته كما ستجعله معرضاً لانتقادات تضر بمشواره السياسي. وهكذا لم يفاجئ خطاب أوباما أمام الجمعية العامة الأخيرة أحداً، فبعدما اعترف بداية بفشل جهوده في حل القضية الفلسطينية وإحلال السلام في الشرق الأوسط راح يقدم عرضاً أذهل الجميع في الدفاع عن “إسرائيل”، ولم يشر إلى الفلسطينيين إلا كطرف ثانوي فيما غابت كلمة احتلال عن خطاب أوباما ولم يأتِ على ذكر الاستيطان ومشاكله، وهو ما يعيدنا مرة أخرى إلى كتاب كارتر عن فلسطين والخيار الذي وضعه أمام الجميع: فإما إنهاء الاحتلال وإتاحة الفرصة لقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة، أو ضم الأراضي الفلسطينية وإلحاقها ب”إسرائيل” على أن يمنح الفلسطينيون حقوقهم الكاملة كمواطنين. ولكن برفض الخيارين معاً تبرهن “إسرائيل” على أنها ملتزمة بخيار الاستيطان لابتلاع ما تبقى من أرض فلسطين والاستمرار في تكريس الاحتلال وهما معاً عماد نظام الآبرتايد الذي تحدث عنه كارتر في كتابه.

وعندما أعلنت الحكومة الإسرائيلية في شهر نوفمبر الماضي نيتها تصعيد عملية البناء الاستيطاني في القدس الشرقية جاءت ردة فعل واشنطن خافتة ورفضت إدانة القرار، وهو ما دفع العواصم الأوروبية التي استشعرت الخطر إلى التدخل لملء الفراغ الناتح عن تردد أميركا، بحيث وجهت كل من فرنسا وبريطانيا وألمانيا والبرتغال خطاباً مشتركا إلى الأمم المتحدة تدين فيه قرار “إسرائيل” بتكثيف الاستيطان في الضفة الغربية والقدس الشرقية، مع الإشارة إلى الطبيعة غير الشرعية للمستوطنات التي تهدد حسب البيان بتقويض حل الدولتين.

وفي الأسبوع الماضي أصدرت أيضاً منظمة “السلام الآن” الإسرائيلية تقريراً يكشف ارتفاع وتيرة الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية بنحو 20 في المئة خلال السنة الماضية، والسؤال الذي يطرح نفسه على الجميع اليوم: لماذا لا تدافع واشنطن عن حل الدولتين إذا كان بالفعل جزءاً من سياستها الرسمية وتصورها المعلن للحل؟ ففي ظل الصمت الأميركي تجاه مواقف “إسرائيل” المتطرفة وسياستها المقوضة لأسس الدولة الفلسطينية تتآكل فرص حل الدولتين بشكل جسيم، ويخصم ذلك من صدقية وفرص الرعاية الأميركية لعملية السلام.

صحيفة الاتحاد الإماراتية

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات