فلسطين في الرمال المتحركة للمفاوضات

مع قلة، بل ندرة أوراق القوة التي ما زالت السلطة الفلسطينية تحتفظ بها في ماراثون المفاوضات الطويل مع “إسرائيل”، فإن محمود عباس قد سجل نجاحاً نسبياً في الأشهر الماضية التي ربما بلغت العام ونصف العام، في التمسك بموقفه بأنه لا يمكن أن يواصل التفاوض مع “إسرائيل” ما لم تعلن هذه الأخيرة وتنفذ عملياً وقف عمليات الاستيطان.
صحيح أن السلطة لم تستطع أن تفرض شيئاً على “إسرائيل” بهذا الموقف، لكنه كان أضعف الإيمان، لأن رئيس السلطة الفلسطينية ما فتئ يكرر بين حين وآخر، أن ليس أمامه في إدارة قضية فلسطين سوى المفاوضات، ثم المفاوضات، ثم المفاوضات.
وكان هذا أضعف المواقف، لكنه كان يمنحه شيئاً من القوة بتصلبه في التوقف الكامل عن الذهاب إلى المفاوضات، ما دامت “إسرائيل” لم تعلن بعد، ولم تنفذ التوقف عن عمليات الاستيطان.
لكن مع انقضاء العام المنصرم، وقدوم العام الحالي، اتضح أنه حتى هذا الموقف الذي وصفناه بأضعف الإيمان، والذي لم يدفعنا خطوة واحدة إلى الأمام في المسيرة العامة للقضية، وفي عملية وقف الاستيطان، حتى هذا الموقف، لم يعد أبو مازن قادراً، في ما يبدو، على التمسك به. فقد فاجأتنا مع آخر أيام العام المنصرم، أخبار العودة إلى مواصلة المفاوضات، وإن بطريقة غير مباشرة، وإن بإشراف مباشر ومشاركة مباشرة من الرباعية الدولية.
تبين في ما بعد أن هذه العودة غير المباشرة، تحولت إلى عودة مباشرة، وإن على مستوى منخفض، إذ تواصلت المفاوضات بين صائب عريقات من جهة، واحد مستشاري نتنياهو، من جهة ثانية.
وكما لم يكن مفاجئاً لأحد، فإن هذه العودة المفاجئة للتفاوض لم تؤد إلى أي جديد، كما أن عملية مواصلة الاستيطان لم تتوقف، احتراماً لعودة المفاوضات، ولو توقفاً جزئياً، بل هي على العكس من ذلك تزداد يوماً بعد يوم حدة وشراسة، حتى وصلت مشارف التهويد الكامل للقدس العربية، وفصلها التام جغرافياً عن الضفة الغربية.
ومع أن الجانب الفلسطيني هو الذي يحتاج في مثل هذه الظروف إلى ما يمنحه شيئاً ولو شكلياً من الاطمئنان، فإن محمود عباس هو الذي مما فتئ يرسل رسائل الاطمئنان ل”إسرائيل”، حتى في فترة توقف المفاوضات، من أنه لن يذهب إلى تحريك بعض أوراق القوة الفلسطينية، مثل استئناف عمليات المقاومة المسلحة، أو حتى المقاومة المدنية على طريقة الانتفاضة الأولى. بل إن عباس يكرر مرة تلو الأخرى، موجهاً كلامه ل”إسرائيل”، بأنه من غير الوارد قيام انتفاضة ثالثة، حتى قبل أن يسأله “الإسرائيليون” في ذلك.
ليست هذه ذروة المهانة وذروة التخاذل في الموقف الفلسطيني. فلقد انبرى نتنياهو قبل أيام، إلى السخرية من المفاوضات غير المباشرة الدائرة بين صائب عريقات ومستشاره، مؤكداً أن لا قيمة البتة لمثل هذه المفاوضات، حتى لو جرت مع مستشار له، لأن هذا الأخير لا يمثله في هذه المفاوضات، بل يمثل رئيس الدولة “الإسرائيلية”، شمعون بيريز، الذي لا يملك أي صلاحيات سياسية، كما هو معلوم.
وهكذا يتضح لنا أن المفاوضات الجارية منذ سنوات بين السلطة الفلسطينية و”إسرائيل”، قد تحولت منذ مدة إلى رمال متحركة، كلما تقدمت فيها السلطة الفلسطينية إلى الأمام، غرقت في هذه الرمال، وأغرقت معها قضية فلسطين، والحالة النفسية للفلسطينيين، سواء في ذلك المقيمين على أرض 48 أو أرض 67، أو في الشتات العربي والعالمي.
ذلك لأن “إسرائيل” تواصل هذه الحالة من المفاوضات المتصلة حيناً، والمتقطعة حيناً، بينما هي تملك بين أيديها ترسانة لا أول لها ولا آخر من أوراق القوة العسكرية والدبلوماسية والسياسية، وحتى النفسية. بينما تصر السلطة الفلسطينية على الاكتفاء بالتفاوض، مجرد التفاوض، مع عدم الحرص أو السعي لامتلاك أي من أوراق القوة، بل- الأنكى من هذا- مع إرسال التطمينات المتواصلة ل”إسرائيل”، بأنها لا تسعى ولن تسعى إلى امتلاك أي ورقة قوة، حتى لو كان ذلك بإطلاق البدء لانتفاضة ثالثة، تستعيد السيرة المجيدة للانتفاضة الأولى (1987-1992)، التي أثبتت محلياً وإقليمياً ودولياً، أنها أنجح وأعظم صيغ النضال الفلسطيني، على مر تاريخه، والأقدر ليس فقط على التحول إلى ورقة قوة رئيسية في التفاوض، بل إلى فرض الحل التاريخي الشامل والعادل على الكيان الصهيوني، بما في ذلك فرض حق العودة لكل فلسطيني هجر من أرضه في 48 أو 67.
وإذا لم يتم ذلك، فإن المسيرة الراهنة والمتواصلة لأنواع التفاوض المباشر وغير المباشر، قد تحولت إلى ستار يسمح ل”إسرائيل” عملياً باستكمال تهويد كل فلسطين، ويسمح لها سياسياً بأقصى حالات التطرف، حتى ظهور تصريحات “إسرائيلية” متكررة بأنه لم يعد وارداً ل”إسرائيل” قبول قيام دويلة فلسطينية، وأن على الفلسطينيين أن يكفوا عن مثل هذه الأحلام.
صحيفة الخليج الإماراتية
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

الأورومتوسطي: إسرائيل تمارس حرب تجويع شرسة في قطاع غزة
غزة- المركز الفلسطيني للإعلام أكد المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، أن الهجوم الإسرائيلي المتواصل والحصار الخانق والنقص الحاد في الإمدادات...

550 مسؤولا أمنيا إسرائيليا سابقا يطالبون ترامب بوقف الحرب بغزة
القدس المحتلة – المركز الفلسطيني للإعلام طالب مئات المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين السابقين الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالعمل على وقف الحرب في...

حماس تدعو للنفير لحماية الأقصى بعد محاولة ذبح القرابين
القدس المحتلة – حركة حماس قالت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، إن محاولة المستوطنين ذبح قربان في المسجد الأقصى يعد تصعيداً خطيراً يستدعي النفير...

مؤسسات الأسرى: تصعيد ممنهج وجرائم مركّبة بحق الأسرى خلال نيسان الماضي
رام الله - المركز الفلسطيني للإعلام واصلت سلطات الاحتلال الإسرائيلي خلال شهر نيسان/ إبريل 2025 تنفيذ حملات اعتقال ممنهجة في محافظات الضفة الغربية،...

إضراب جماعي عن الطعام في جامعة بيرزيت إسنادًا لغزة
رام الله- المركز الفلسطيني للإعلام أضرب طلاب ومحاضرون وموظفون في جامعة بيرزيت، اليوم الاثنين، عن الطعام ليومٍ واحد، في خطوة رمزية تضامنية مع سكان...

القسام تفرج عن الجندي مزدوج الجنسية عيدان ألكساندر
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أفرجت كتائب الشهيد عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، عند الساعة 6:30 من مساء اليوم...

خطيب الأقصى: إدخال القرابين يجب التصدي له بكل قوة
القدس – المركز الفلسطيني للإعلام استنكر خطيب المسجد الأقصى الشيخ عكرمة صبري، محاولة يهود متطرفين إدخال قرابين إلى ساحات المسجد الأقصى، معتبراً أنه...