الإثنين 12/مايو/2025

آخر القول حتى لا ننزلق لمفاوضات أخطر من الانقسام

آخر القول حتى لا ننزلق لمفاوضات أخطر من الانقسام

قبل أيام وأثناء انعقاد دورة المفاوضات الجديدة بين السلطة والعدو الصهيوني في الأردن أعلنت حكومة العدو عن مشروع بناء مئات الوحدات السكنية الاستيطانية في الضفة الغربية وفي القدس بالذات.. الإعلان في حد ذاته وإن تداولت وسائل الإعلام ذلك كان لافتا فالمفروض أنه سيؤثر سلبا على المفاوضات المأزومة أيضاً.. لكن يبدو أن مشروع البناء الاستيطاني والإعلان عنه كليهما مقصودان وأن العدو يريد توصيل رسالة بأن المفاوضات انطلقت مع الاستيطان (وليس بعده ولا بشرط وقفه) وأن يقول للسيد عباس أستطيع أن آتي بك وقتما وحيثما أريد.. ثم هاهي الرسائل قد وصلت، وهاهم يلتقون وإن تحت عنوان الاستكشاف..

فإذا جمعنا لهذه المأساة ما يتحدث به السيد عباس ومستشاروه من أن الاحتلال يضغط عليه في مسألة التنقل، وإذا استحضرنا الصورة العامة للسلطة الفلسطينية ودورها في تسويغ وتسويق الاحتلال وسقف طموحات الشعب الفلسطيني والتنسيق ضد مقاومته.. فإن كل ذلك يطرح السؤال: لماذا إذن كان السيد عباس يمتنع عن لقاءات التفاوض لأكثر من ستة عشر شهراً مضت؟ وهل لتوقيت الانطلاق معنى خاص.. وأقول:

أما لماذا تعطلت من قبل؛ فبالنظر لما قام به الكيان الصهيوني خلال فترة التوقف يمكن الجزم بأن نتنياهو هو الذي أراد ذلك وليس السلطة.. فنتنياهو نحا منذ قدومه على رأس الحكومة الصهيونية إلى وقف التسوية واتخاذ خطوات انفرادية على الأرض وتمرير تشريعات عنصرية، ولأن الحالة الفلسطينية كانت في أسوأ حالاتها ولا تغريه بالتقدم إلى التسوية فالسلطة كانت على نقيض مع حماس؛ نقيض أضعف المقاومة بقدر ما بدد وجاهة تمثيل السلطة.. هذه الحالة كانت هي الأمثل والأفضل بالنسبة لنتنياهو.. من ناحية أخرى كان نتنياهو – كما تبين لاحقاً – يريد تمرير جملة متغيرات وقوانين ليس سائغا تمريرها حال انعقاد المفاوضات.. وقد حدث وحقق نتنياهو كل ما يريد..

وأما لماذا انطلقت المفاوضات؟ ولماذا الآن بالذات؟ فلأسباب أهمها – في نظري – أربعة:

أولاً: أن الانتخابات الصهيونية صارت على الأبواب وهي تفرض على نتنياهو ليفوز بها أن يمسك بخيوط التصعيد والتخفيض والتسوية والحرب والرأي العام الداخلي – الصهيوني – والرأي العام الخارجي المرتبط بالرباعية والإعلام العالمي.. لذلك فهو مضطر لإعادة تدوير عجلة المفاوضات.

ثانياً: الثورات العربية وما ترتب عليها وما قد تؤول إليه من مردودات وانعكاسات على القضية الفلسطينية.. هذه الثورات وتفاعلاتها يخشى أن تتصاعد بسبب توقف التسوية وانغلاق أفقها، كما يخشى أن تقلل في مرحلة ما قدرتهم على إطلاقها بالمنطق الصهيوني المعتاد.. فالمفاوضات إذن تأتي في سياق مسابقة تلك الثورات والتغلب على تداعياتها.. الأكيد أن إطلاق المفاوضات في هذا الوقت وفي مواجهة الثورات العربية يتجاوز كونها آلية للتسوية وكونها مواجهة بين الفرقاء الملتقين إلى أن تكون آلية لإحياء منظومة “دول الاعتدال” المنخرطة في الاستراتيجية الأمريكية الصهيونية في المنطقة.. في وجه النجاحات التي حققها الإسلاميون على الصعيد الرسمي في تونس ومصر والمغرب وليبيا مضافاً إليها نجاحاتهم في فلسطين وتركيا وبداية تشكل هلال إخواني صحوي يتوقع أن تكون له أداءاته ومترتباته.. فهم إذن يتحركون لترتيب أوراقهم وجمع حلفائهم.. ولعل انطلاق المفاوضات في الوقت نفسه الذي يستقبل فيه السيد هنية في عدة دول استقبالات رسمية ليس من قبيل الصدفة.

ثالثاً: المصالحة بدأت تؤتي أكلها ويخشى أن تتحول في ظل وقف المفاوضات إلى تقارب على قاعدة المقاومة وعلى حساب التسوية.. ذلك دفع نتنياهو لإطلاق المفاوضات بعد موجة التصعيد ضد غزة لإيقاع التناقض بين طرفي الانقسام في الأداء اليومي وفي الصورة الإجمالية وفي المصير.. هنا يجب توقع أن العدو سيصعد اعتداءاته على غزة كلما توغلوا في المفاوضات وهو ما على المقاومة أن تحسب له حسابات جيدة وأن تحتاط له..

رابعاً: من الواضح أن هناك تسارعا وتسابقا بين أمريكا والعدو الصهيوني من جهة وبين إيران من الجهة الأخرى على من يمتلك أوراق قوة أكثر وأسرع ومن يصفف معادلاته السياسية واستعداداته للمرحلة المقبلة حيث تتزايد فيها احتمالات توجيه ضربة لإيران.. والمعهود أن أي حراك من هذا النوع في المنطقة لا بد أن يسبقه تخفيف لمعدلات التوتر وبالذات على الساحة الفلسطينية.. حدث هذا في الحرب العالمية الثانية وهو يحدث منذ غزو العراق للكويت.. هنا تأتي المفاوضات وهنا تؤدي الدور القذر في تخدير الشعوب وضبط الانفعالات وتهيئة أجواء العدوان..

المنطقي هنا أن نسأل: إذا كان إطلاق المفاوضات وفي هذا الوقت بالذات مصلحة للعدو ولأمريكا وأعوانهم كما نرى فلماذا يستجيب لها السيد عباس؟ ولماذا لا يتمنع في قبولها ولو من أجل تحقيق أثمان أعلا ووضعية مفاوضات ثم نتائج أفضل؟ وأين صارت المصالحة الفلسطينية التي هي نقيض التسوية وعدوها الأول؛ أين صارت بالنسبة لفتح التي تركت مربع المصالحة من غير أن تأبه بتعهداتها السابقة ولا بلجنة الأمناء العامين المشكلة ولا بالمقاومة الشعبية التي تحدثوا عنها كثيراً؟ وأتساءل: هل القيادة الرسمية للشعب الفلسطيني تشتغل السياسة بطريقة علمية ومهنية؟ وإن كانت كذلك؛ أليس أقل المطلوب أن لا يذهبوا ويجيئوا وفق محددات نتنياهو؟ وإن كان نتنياهو لا يبقي لهم ثابتا ولا يحفظ لهم ماء وجه ولا يمرر لهم حتى كلمة تعذرهم أمام شعبهم؛ فلماذا يتعهدون بأشياء مما هي بيده حصرياً ليضطروا بعد ذلك لتغييرها (ولحسها)؟ ولماذا يعودون إلى نفس الكرّة ألف مرة؟ وإذا كانوا غير قادرين على التمنع عن ملاقاة العدو فلماذا لا يكونون صادقين مع شعبهم ويعلنون ذلك؟ وإذا كان في الموقف الصهيوني ما يحتاج إلى استكشاف حتى الآن فما الذي كانوا يعملونه كل السنين الماضية، ولماذا كل هذا التضييع للوقت؟

الحقيقة أن على الشعب الفلسطيني وعلى حماس وعلى كل النخب الفلسطينية أن يفهموا شيئاً واحدا واضحاً وبسيطاً ويتأكد كل يوم ومع كل فشل للقيادة هو أنها – القيادة – إما عاجزة (إن أحسنا الظن) أو هي جزء من مشروع الاحتلال (إن أسأناه) وفي الحالتين لا يجوز أن تبقى في سدة المرحلة، والحقيقة أن منطق المفاوضات في ظل معادلاتها ومحدداتها التي تخضع لها حاليا لن توصل إلى شيء.. حتى لو كان لها عائد شخصي على طاقم المفاوضات وعوائلهم ورفاهيتهم، وعائد أقل بكثير على الموقف الإعلامي والعاطفي العالمي من القضية الفلسطينية؛ ولكن هذه المكتسبات – سواء منها الشخصي والعمومي – لا ترقى إلى مستوى أقل المقبول، وهي أعجز من أن تتحول لفعل مؤثر أو أن تصنع حدثاً مهماً قد صار ضرورياً واستباقياً..

آخر القول: ربما المخرج لمأساة فلسطين هو انتفاضة ثالثة تنقلب على كل الحالة المتهرئة منها والعاجزة، وربما هو في إصلاح المنظمة، وربما هو في الانتخابات.. لكن هذه كلها تخضع للاحتمالات وتختلف جدواها باختلاف تداخلات كثيرة.. أما اليقين فهو أن السلطة صارت عاجزة تماما عن حماية الثوابت، وهو عجز يساوي في المحصلة النهائية التنازل عن تلك الثوابت، واليقين أن التدهور في المفاوضات لا يقل خطورة عن التدهور في الانقسام وبالتالي فلم يعد مقبولا تجاهل هذا الملف ولم يعد ممكناً إبقاؤه بعيداً عن الشعب الفلسطيني وعن حماس وعن التفاهمات الداخلية تحت أي مبرر.. فلا بد وعاجلاً من فتح نقاش فوري لوضع الاستراتيجيات والمحددات التي تمنع الانزلاق لمفاوضات عدمية لسنوات أخرى..

صحيفة الشرق القطرية

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات