الإثنين 12/مايو/2025

المفاوضات والزامور

المفاوضات والزامور

طقس رام الله، وهي تشهد تظاهرة ضد المفاوضات المستأنفة مع “إسرائيل” في العاصمة الأردنية، لا يشبه طقس المفاوضات إلا في برودة كليهما. في رام الله اخضرار وأمطار، أما المفاوضات فهي يابسة وجافّة، سماؤها بلا غيوم وثمّة غربال يحاول تغطية شمسها بلا جدوى.

شبان يرتدون المطر والبرد ويتظاهرون على مقربة من مقر الرئاسة، وهو مكان تعوّدوا الاحتشاد فيه مرات ومرات عندما كان الرئيس الراحل ياسر عرفات يتعرّض للقصف من دبابات الاحتلال وطائراته، قبل أن يتحول إلى زعيم محاصر حتى الموت، ليكون للاحتشاد، آنذاك، لون الشموع ونكهة الدموع. لسان حال الشباب يقول: أبو عمار مر من هنا إلى مستقرّه الأخير تاركاً خلفه إرثاً في قلوب كثيرين وأشواكاً في حلوق كثيرين أيضاً.

هذه المرّة يأتي الحشد في مواجهة حدث لونه يصعب تمييزه، لكن لا علاقة له بربيع رام الله المستمد من خُضرة عمرها بعمر المدينة وليس من أي شيء آخر. يأتي الحشد وفي الحلوق غصّة بطعم العلقم. منح الحشد مسمى “الاعتصام الصامت” في رسالة مفادها بأن الصمت كثيراً ما يكون أبلغ من الكلام، لكن ليس صمت دول العرب وما يسمى تضليلاً “المجتمع الدولي” وهو صمت يشبه صمت القبور. معادلة الصمت والصوت مفارقة في بلاد العرب. فهم خرجوا عن صمتهم على مرحلتين، الأولى عندما احتاج الغرب صوتهم، والثانية أكملوا فيها طبيعتهم كظاهرة صوتية.

قيل قبل التظاهرة إنها ستكون صامتة كوسيلة احتجاج، ربما، على أصوات نشاز، أو كبداية تبلور مطلب شعبي عربي ممن كانوا مطالبين بالكلام بأن يصمتوا أفضل لهم ولنا. لكن الإبداع عندما يكون ابن لحظته يكتسي رونق المبادرة، وهذا ديدن شعب عريق التجربة في التظاهر وابتكار وسائل الاحتجاج الثوري العنيف منه والسلمي. من رحم هذا الإبداع الاحتجاجي ولدت لافتة طالبت المارين بسياراتهم أن يطلقوا أبواقها لتصرخ في وجه محاولات إحياء جثة هامدة اسمها المفاوضات.

“إذا كنت ضد المفاوضات زمّر”، هكذا قالت اللافتة. أحد السائقين خطر له أن يحتج على الاحتجاج، وهو ممن يقللون عادة من قدرة الاحتجاج على وقف السياسات الخاطئة، لأنهم خبروا مقولات من نوع “قولوا ما تشاؤون ونفعل ما نشاء”. أما الاحتلال فهم لا يرون مواجهته إلا بالمقاومة وليس بالاحتجاج. أحدهم صرخ من نافذة سيارته “يا عمي، عالفاضي، هم رايحين رايحين”، إلا أنه عاد و”زمّر” كتعبير عفوي عن الثقة بخيار هؤلاء الواقفين تحت المطر والبرد القارس، وكتعبير موروث عن حس الالتزام الشعبي الذي ولدت من رحمه انتفاضات عظيمة، ولم تغب عن الأذهان أطول انتفاضة في التاريخ، والتي لم يستطع إجهاضها سوى اتفاق أوسلو. لماذا “الزامور”؟. لأنه يمثّل المفارقة والتناقض. فهو تعبير عن الفرح في مواكب سيارات الأعراس وسواها من مناسبات الابتهاج، وهي أيضاً مبعث ضجر في زحمة المرور. بين هذا وذاك يضم “الزامور” صوته للاحتجاج السياسي، لكي يقول للمفاوضين كفى دوراناً في العبث والحلقات المفرّغة.

لقد تفهّم البعض، حتى لو لم يقبل، منطق التفاوض في ظل ميزان قوى مختل تماماً لمصلحة “إسرائيل”، ورغم أن التفاوض ينطوي، في ظل هكذا واقع، على معنى واحد هو “التسوّل والتوسّل”، لكن مع استنفاد كل الممكنات وغير الممكنات والحصيلة الصفرية للتجربة، لا بد من استخلاص النتائج، وليس هناك من استخلاص وحيد يجب أن يوجّه لجميع القوى الفلسطينية: إن لم تعودوا إلى شعبكم ووحدتكم، سيختفي جرس الإنذار ويحل مكانه “الزامور” بصوت متواصل.

[email protected]

صحيفة الخليج الإماراتية

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات