انقلاب السحر على الساحر

يشهد الكيان الصهيوني بين الحين والآخر مواجهات بين العلمانيين والمتشددين الدينيين على خلفية طروحات لا يقرها العلمانيون، من بينها المطالبة بالفصل بين الجنسين في المرافق العامة. ولا يعدم المتشددون الوسائل التي يرونها مناسبة للوصول إلى ما يبتغون بما في ذلك “المحرقة اليهودية”. فقد علّقوا في تظاهراتهم الأخيرة نجمة داوود الصفراء على صدورهم ما يوحي بأن السلطات العلمانية تريد إبادتهم كما فعلت النازية في الحرب العالمية الثانية عندما ميزت اليهود عن بقية السكان بحملهم على تعليق النجمة اليهودية الصفراء على صدورهم تمهيدا لنقلهم إلى معسكرات الاعتقال، وبالتالي حرقهم بأفران الغاز وفق الروايات المأذونة.
ويرغب اليهود المتدينون الذين ارتدوا ثياباً مخططة أثناء التظاهرة كتلك التي كان يرتديها يهود المعتقلات النازية، وكتبوا اسم النجمة السداسية بالألمانية، وشتموا رجال الشرطة “الإسرائيلية”، ووصفوهم بالشرطة النازية يرغب هؤلاء إذن في أن تجلس النساء في المقاعد الخلفية من وسائل النقل المشترك وأن يتجمعن في طوابير منفصلة عن الرجال في الإدارات والأسواق، وأن يقترعن في غرف خاصة مفصولة عن غرف الرجال، وأن ترتدي النساء لباساً محتشماً، وهم يعتقدون أن الدولة الصهيونية تريد إبادتهم، كما فعلت الدولة النازية بأجدادهم، علماً أنهم لا يعترفون بالصهاينة ويصنفونهم في خانة الكفار.
الواضح أن ظاهرة اليهود المتدينين أو الأرثوذكس ليست جديدة في الكيان الصهيوني، فهي معمرة منذ نشأته التي تميزت بسيادة التيار الصهيوني الاستيطاني الذي أرسى نظام “الكيبوتزات” والاندماج الاجتماعي بين أعراق مختلفة تجمعها الصفة الدينية. وكان واضحاً أن غلبة هذا التيار “العلماني” مردها إلى كثرة الغزاة الأوائل من الغربيين الذين جاؤوا من بلدان أوروبية علمانية ومنهم تشكلت كادرات الدولة اليهودية وجيشها ومؤسساتها، بالمقابل كان التيار الأرثوذكسي “أقلوياً” ويتراوح التزامه الديني بين فئة لا تقبل أساساً بوجود دولة “إسرائيل”، وترى أنه من غير الجائز ظهورها قبل عودة المسيح الذي يحق له وحده إنشاءها، وفئة تكتفي بالالتزام بالملابس التقليدية واحترام العادات والتقاليد اليهودية، بيد أن ازدياد نسبة المهاجرين من الدول الشرقية والاتحاد السوفييتي السابق، فضلاً عن المهاجرين من الدول العربية، كل ذلك أدى إلى تدعيم نفوذ الجماعات الأرثوذكسية التي يطالب بعضها بإبادة العرب. وقد تمكن هؤلاء من تشكيل كتل نيابية صارت محط أنظار الطامحين لتولي الحكم في هذا الكيان ومن بينهم بنيامين نتنياهو الذي ينام في فراش العلمانيين تارة والمتدينين تارة أخرى، إلى حد أنه تحالف مع أحد أبرز زعمائهم أفيغدور ليبرمان وزير الخارجية في الحكومة الحالية، بيد أن الصدام الأبرز يتمثل في اغتيال رئيس الوزراء الأسبق إسحق رابين على يد أرثوذكسي يهودي من أصل يمني.
وإذا كان من المبكر الحديث عن تفكك المجتمع “الإسرائيلي” واحترابه بين العلمانيين والمتشددين فإن لجوء المتشددين إلى “حرم” المحرقة النازية، أي إلى الهيكل الأهم الذي بناه الصهاينة واستخدامه ضد صانعيه هو بحد ذاته ظاهرة جديدة تماماً في الدولة الصهيونية، فهي المرة الأولى التي يجرؤ فيها طرف “إسرائيلي” على إنزال المحرقة من السماء إلى الأرض واستخدامها في صراع يهودي يهودي. من كان يتخيل أن يرى يوماً في شوارع مدينة يهودية يفوق عدد سكانها ال 80 ألفاً أشخاصاً يرتدون البيجامات المخططة التي كان يرتديها معتقلو المعسكرات النازية، ويرفعون شعارات تتهم الحكومة بالعمل على إبادتهم كما أباد النازيون أجدادهم ومن ثم يبادرون إلى مهاجمة ثكنة عسكرية فيحطمون بعض الآليات ويحرقون البعض الآخر؟
في كتابه “صناعة المحرقة” أو “الهولوكوست” لا ينكر نورمان فنكلشتاين وقوع المحرقة، كما فعل بعض من أطلق عليهم اسم “التحريفيين” أو “الناكرين” بل يحذر من استخدامها وسيلة ابتزاز مالية وسياسية وأخلاقية وتجارية. ويذهب الكاتب اليهودي نعوم تشومسكي إلى أبعد من ذلك عندما يحذر المجتمع “الإسرائيلي” نفسه من أن يؤدي الإفراط في استخدام المحرقة إلى الإضرار بأهلها. ولعل التحذير ما كان مجدياً في الحالتين، ذلك أن التيار اليهودي الأرثوذكسي يستخدم “صناعة المحرقة” نفسها، أي الإفراط في التحذير من الإبادة لتحقيق أغراض سياسية واجتماعية وأخلاقية وربما مادية.
لقد انقلب سحر المحرقة على الساحر الصهيوني، وهذا ما تنطق به تظاهرات اليهود الأرثوذكس المستمرة. تبقى الإشارة إلى أن هذه التظاهرات طرأت في ظرف سياسي شديد الحرج، فالكيان الصهيوني ما عاد قادراً على اللعب خارج حدوده، كما يريد، وانحسرت قدراته الردعية، الأمر الذي شجع اللاعبين في الداخل على رفع أصواتهم عالياً، وقد يشجع آخرين غيرهم. فضعف الدول يغري بالتعرض إليها وبخاصة بعض من أهلها، لذا فمن يتحدثون باستخفاف عن حركات المقاومة والممانعة ربما عليهم أن يعيدوا النظر في حديثهم، ذلك بأن هذه الحركات ألحقت وتلحق الأذى بالردع الصهيوني، أي أنها تتسبب بضعف الدولة الصهيونية، ما يتيح تجرؤ بعض مواطنيها عليها. نعم لقد انقلب السحر على الساحر، ولمقاومتنا نصيب مهم في هذا الانقلاب.
صحيفة الخليج الإماراتية
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

الأورومتوسطي: إسرائيل تمارس حرب تجويع شرسة في قطاع غزة
غزة- المركز الفلسطيني للإعلام أكد المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، أن الهجوم الإسرائيلي المتواصل والحصار الخانق والنقص الحاد في الإمدادات...

550 مسؤولا أمنيا إسرائيليا سابقا يطالبون ترامب بوقف الحرب بغزة
القدس المحتلة – المركز الفلسطيني للإعلام طالب مئات المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين السابقين الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالعمل على وقف الحرب في...

حماس تدعو للنفير لحماية الأقصى بعد محاولة ذبح القرابين
القدس المحتلة – حركة حماس قالت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، إن محاولة المستوطنين ذبح قربان في المسجد الأقصى يعد تصعيداً خطيراً يستدعي النفير...

مؤسسات الأسرى: تصعيد ممنهج وجرائم مركّبة بحق الأسرى خلال نيسان الماضي
رام الله - المركز الفلسطيني للإعلام واصلت سلطات الاحتلال الإسرائيلي خلال شهر نيسان/ إبريل 2025 تنفيذ حملات اعتقال ممنهجة في محافظات الضفة الغربية،...

إضراب جماعي عن الطعام في جامعة بيرزيت إسنادًا لغزة
رام الله- المركز الفلسطيني للإعلام أضرب طلاب ومحاضرون وموظفون في جامعة بيرزيت، اليوم الاثنين، عن الطعام ليومٍ واحد، في خطوة رمزية تضامنية مع سكان...

القسام تفرج عن الجندي مزدوج الجنسية عيدان ألكساندر
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أفرجت كتائب الشهيد عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، عند الساعة 6:30 من مساء اليوم...

خطيب الأقصى: إدخال القرابين يجب التصدي له بكل قوة
القدس – المركز الفلسطيني للإعلام استنكر خطيب المسجد الأقصى الشيخ عكرمة صبري، محاولة يهود متطرفين إدخال قرابين إلى ساحات المسجد الأقصى، معتبراً أنه...