الأحد 11/مايو/2025

خطيئة السفير جوتمان!

خطيئة السفير جوتمان!

أخطأ هاورد جوتمان، السفير الأميركي في بلجيكا. ربما دفعه لارتكاب خطيئته، التي لن تغفر له ولن ينجو من عواقبها، أمران لعلهما هما ما منحاه الجرأة على ما اقترفه لظنه أنهما يعصمانه من الحساب ويجعلانه بمنأى من هذه العواقب. أولهما، كونه يهودياً قحاً وحتى ابن لناجٍ من المحرقة النازية. والثاني، أنه، على الأرجح، واحد من عقلاء الصهاينة القلة، أو من الذين يحرصون على “إسرائيل” أكثر من حرص إسرائيلييها عليها… ترى ما هي خطيئة جوتمان هذه ؟!

لقد كان من جوتمان هذا، ولكونه المتابع والحريص على استمرارية مُسلَّمة تليد الدعم والرعاية والضمانة الغربية، في شقها الأوروبي، ل”إسرائيل”، والكائنة منذ اختلاقها، وبالتالي انشغاله من هذا المنطلق بما لاحظه من تصاعد مطرد لمظاهر النقد السائر باتجاه مزيدٍ من الشجب والإدانة الأوروبية، الشعبية وليس الرسمية، للسياسات العدوانية الإسرائيلية، إن تجرأ فعلّق الجرس ملاحظاً، في حديث له في واحدٍ من تلك المنتديات المكثر من انعقادها في أوروبا عادةً، لمكافحة ما تدعى “معاداة السامية”، أن نوعاً جديداً لا صلة له بما دعاه “التزمت التقليدي” الأوروبي قد انضم إلى تلك العوامل المؤججة لتلك المعاداة، يرى فيه جوتمان أنه مرتبط بالصراع في “الشرق الأوسط”، موضحاً إياه بالقول، إنه لا يعتقد بأن “معاداة السامية” الأوروبية هي “لمجرد الحقد”، وإنما “لتنامي نوع جديد من هذه المعاداة هو أكثر تعقيداً تحركه النقمة على إسرائيل على خلفية ذلك الصراع”…

باختصار، كل ما كان من جوتمان أنه عبّر بطريقته عن قلقه على مستقبل “إسرائيل” من عواقب فجور عدوانيتها فحذّر من تعاظم المشاعر الأوروبية الشعبية المعادية لتمادي تلك العدوانية الاستعمارية المنفلتة. نحن هنا لسنا بصدد التعرض لردود الأفعال الإسرائيلية على ما قاله جوتمان، والتي لابد وإنها سوف تترى لا محالة شاجبةً ومنددةً بما ذهب إليه هذا اليهودي العاق الخارج ولو قليلاً من جلده وعلى بني جلدته، وإنما تكفينا ملاحظة ردود الأفعال الأميركية الرسمية الأولية على خطيئة سفير الولايات المتحدة في بلجيكا، الذي اشتط وذهب بعيداً فجاء بما أغضب واستفز صهاينة الكونجرس الأميركان، الأشد صهيونيةً في العادة من غلاة الصهاينة أنفسهم، لا سيما ونحن على مشارف القادم من الانتخابات الأميركية الرئاسية والتشريعية المنتظرة!

مرشحا الرئاسة الجمهوريان، اللذان يعدان الأوفر حظاً للترشيح من قبل حزبهما، ميت رومني ونيوت جينجريتش، سارعا إلى الدعوة لعزل جوتمان من منصبه عقاباً له على إقدامه على اقتراف مثل هذه الخطيئة الرهيبة، وكادا في حمأة غضبتهما من فعلته أن يتهماه بدعم الإرهاب! ولما أفرغا جام غضبهما على رأسه التفتا إلى الإدارة الديمقراطية فاتهماها في شخص رئيسها باراك أوباما بعدم تقديم الدعم الكافي ل”إسرائيل” وتقصيرها في مزاولة ثوابت هذا الواجب الأميركي التقليدي حيال هذه المحظية المدللة.

وكانت التهمة التي لا يقوى أمثال المارق جوتمان على التملص منها لدى هذين المرشحين الغيورين، إن هذا العاق قد حاول أن يجعل من “معاداة السامية أمراً منطقياً والتخفيف من خطورتها”… كانت جريمته عندهما أنه يخضعها، أي “معاداة السامية”، للعقل ويعرِّضها للنقاش بما يمسس في نظر هذين الشيخين تليد التابو الابتزازي الصهيوني لأوروبا التي ضاقت بتمادي فزَّاعته ذرعاً، وبالتالي إتيانه لما من شأنه أن يخفف من عقدة الذنب المراد لها أن تظل الأبدية والمستمر تسليطها على أعناق الأجيال الأوروبية إلى ما شاء الله، كما وأنه بجرأته هذه يسهم في الحد من فعالية هذا الابتزاز ويضيره كمقدس يحذر مسه!

الديمقراطيون، ربما هم الآن محرجون لهفوة جوتمان الذي هو سفير إدارتهم الراهنة، ولأنهم ، وفق الأصول الأميركية ، يجب ألا يكونوا الأقل إظهاراً لغضبتهم من الجمهوريين إزاء ما فعل… أما الخارجية الأميركية فلم تجد ما تدافع به عن سفيرها سوى القول: إنه “لدينا ثقة كاملة” بجوتمان، مع الحرص على التنصل من فعلته الشائنة بالإشارة إلى أنه إنما “كان يعبر عن رأيه الخاص”..!

… أما البيت الأبيض، الذي لم يحرص على الدفاع عن جوتمان، فقد سارع للدفاع عن نفسه، مستعرضاً سجل الإدارة الأوبامية الحافل في دعم “إسرائيل” ورعايتها وحمايتها والتغطية على فعائلها والوقوف إلى جانب سياساتها في السراء والضراء، سارداً بعضاً مما حفل به ذلك السجل، كمعارضتها لإدانة “إسرائيل” في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وتنديدها المستمر “بالتحريض” العربي ضد هذه المسكينة، وكان مما ألح البيت الأبيض عليه هو التأكيد على أن “هذه الإدارة تصدَّت بشكل متواصل لمعاداة السامية، ولجهود نزع الشرعية عن إسرائيل، وسنستمر في خطنا هذا”.

… لعل أهمية حكاية جوتمان هذه في كونها تؤشر، مع ما هو الكثير من أمثالها من مشابه الحكايات، على حقيقتين، واحدتهما مستجدة والأخرى عتيقة مزمنة. الأولى، أن راهن هذا العالم، ونعني عالم الشعوب على الأقل، قد بدأ يضيق ذرعاً بهذه الجريمة الغربية المتواصلة لأكثر من ستة عقود والمسماة “إسرائيل”، أو هو على الأقل خجلاً من استمراريتها… والثانية، أن الصهيونية الأميركية تحديداً هي الأشد عتواً والأكثر عدائية تجاه العرب ، ومن ميزاتها التي تتفرد بها أنها هي الأقل عقلانية والأكثر وقاحةً من سائر ما عداها من الصهيونيات!

كاتب فلسطيني

صحيفة الوطن العمانية

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات