الإثنين 12/مايو/2025

تجريم حياة الأقلية العربية الفلسطينية في أراضي الـ48

تجريم حياة الأقلية العربية الفلسطينية في أراضي الـ48

مقدمة

يعتبر التطرق للجريمة والعنف في وسط الأقليات القومية من المهام الصعبة والشائكة، وخاصة حينما يتشابك الجانب الجنائي مع الجانب السياسي. هناك اتجاهان على الأقل لفحص هذه القضية: فالاتجاه الأول يركز على الأقليات نفسها من ناحية مواقفها وتصوراتها تجاه ما يحدث بين أفرادها، والاتجاه الثاني يتمحور حول ردود فعل الأطراف الرسمية وعقلية الأكثرية الحاكمة.

تبرز هذه المقالة الحاجة الملحة إلى تفكيك وتشريح تصورات ومفاهيم تستخدمها أجهزة السيطرة والى فهم “أساليب التعرية والإيذاء” المنظمة ضمن سياسات ما يسمى بـــ “الاحتلال المدني” (1) وكيف تحاول هذه الأجهزة تجريم وعسكرة حياة الأقلية على مستوى الأيديولوجي، وذلك من خلال ربطها بالعنف وعلى مستوى إجراءات السيطرة، التي تؤدي إلى تكوين إحصائيات شرطية تبرهن عملية التجريم.

الوعي الرسمي: أيديولوجيات سياسية وتصورات نمطية

بشكل عام هنالك اهتمام قليل في قضايا الانحراف والجريمة العادية على المستوى الجماهيري والسياسي. يصبح الإجرام أمر رسمي بارز حين تداخل عناصر أيديولوجية وسياسية، عندها تتعالى أصوات السلطات الرسمية التابعة للأغلبية اليهودية في لصق العرب بميزة العنف والجريمة. مصدر أغلبية المعلومات المتوفرة حول الانحراف والجريمة في المجتمع الفلسطيني هي الشرطة التي تغذي بدورها الصحافة العبرية والعربية  بالأخبار المنظمة وبواسطة الناطق باسمها. 

تنحصر علاقة الجريمة بالعربي المنتمي لأقلية أصلية في الوطن في أربعة ظروف أساسية، من الأهمية الوعي لوجودها لكي نفهم ماذا يحصل اليوم من ردود فعل رسمية اتجاه حالات القتل والمتاجرة بالأسلحة التي تحصل في المجتمع العربي المحلي. أولا: هنالك أفعال التي يتم تعريفها بواسطة السلطات بالجرائم، وهذه الأفعال تنحصر بما يسمى “خرق النظام العام” أو “التحريض” أو الانتماء لمنظمات “غير شرعية”.  ثانيا: النظر للعربي ودائما أنه الفاعل للجريمة وبينما النظر لليهودي كالضحية، وخاصة في حالات العنف والاغتصاب والسرقات والسطو والمخدرات.

يتم تعريف هذه الأفعال بواسطة السلطات كــ “جرائم قومية أيديولوجية والمرتبطة والنابعة من استعداد سياسي لدى الفاعل”. ثالثا: الجريمة العادية والأكثر بروزا هي حالات القتل ومحاولات القتل والقتل على شرف العائلة. ورابعا: الأفعال التي يتعاون في تنفيذها عرب ويهود، حيث التصور القائم لدى السلطات أن العربي هو تاجر المخدرات واليهودي هو المستخدم للمخدرات؛ العربي هو السارق واليهودي هو الضحية؛ الزاني هو العربي والزانية هي يهودية وخارق النظام هو عادة عربي. هذه الأمثلة تعكس التصور النمطي والفكر الأيديولوجي الذي يوجه سياسية السلطات الإسرائيلية في تعاملها مع العربي في مجال الجنائيات والقضاء. 

من الأهمية التمييز، في هذا السياق، بين رد فعل الأغلبية النابع من ظروف موضوعية (بالفعل يحصل ارتفاع على مستوى الانحراف الاجتماعي في وسط العرب) وبين رد فعل النابع من عوامل غريبة (عوامل ليست مرتبطة بالجريمة والعنف وإنما بعوامل عقائدية). تظهر تجارب تعامل الأقلية العربية مع الأغلبية اليهودية أن التفسير الأكثر مناسب لإبراز العنف والجريمة في وسط الأقلية يتبع لنوع رد الفعل الثاني، حيث أن المرجعية المسيطرة  حين ربط العربي بالعنف والجريمة هي المصالح السياسية أو بما يسمى “الأمنية”: يعني النظر لقضايا العربي كجزء من الصراع اليهودي الفلسطيني- العربي. التصور أن العربي هو المجرم وهو العنيف هو تصور المستند على أيديولوجيات سياسية والتي تعتبر الأساس للتخطيط والتنفيذ في تعامل السلطات مع العرب، حيث أن هذه العقائد هي الموجهة لترويج  قصص حول علاقة العربي مع العنف ولتسويق الفكرة أن الشرطة عازمة، كأسلوب للتغطية، في بناء وحدات شرطية جديدة أو إضافة ميزانيات أو استخدام طرق وأساليب جديدة لمواجهة عنف العربي.

جرائم المكانة السياسية

عندما نتحدث عن الجريمة والعنف في وسط أقلية سياسية من الأهمية عدم البلبلة بين مفهومين: الجريمة والسياسة. لكن في أحيان كثيرة تتطرق قيادة الأغلبية في إسرائيل لأفعال جنائية صرفة وعادية كأفعال على خلفية أيديولوجية قومية، أو تتطرق، كمثال آخر، لأفعال يومية عادية من حياة العربي كأفعال جنائية. فعندما ينفذ العربي فعاليات احتجاجية تحاول الشرطة وباقي أجهزة السيطرة ربطها بالطابع الجنائي، وبالتالي تعتقل العربي المحتج وتحول أفعاله لجنائية. تنظر دراسات وأبحاث في مجال علم اجتماع الانحراف وعلم الاجتماع الجنائي (2) للاعتقالات كشكل من أشكال الإحباط والسيطرة الاجتماعية، انعكاس لسياسات التي تنظر إلى إستراتيجية العسكرة  كمجموعة من الأدوات التي تستخدمها أجهزة الأغلبية، لصيانة وحماية سيطرتها وهيمنتها على فئات الأقليات، التي تعتبرها مهددة.

يمكن التمييز، في هذا الصدد، بين ثلاثة أنواع من الأفعال التي تعتبرها هذه الأجهزة كجرائم: (1) جرائم جنائية عادية (سرقة، محاولة قتل، قتل، الخ). (2) جرائم سياسية صرفة (الخيانة، الجاسوسية، العمالة، الخ) و (3) جرائم المكانة السياسية (مسيرة احتجاجية، مسيرة بمناسبة حدث سياسي، على سبيل المثال).

ما يهم المقالة الحالية هو النوع الثالث المسمى “جرائم المكانة السياسية” وهي جرائم المرتبطة بهوية الفاعل ومكانته القومية، بالتالي فهي لا تعتبر في الحياة اليومية للفاعل كغير قانونية وشرعية. البحث الوحيد، الذي يعتبر تحديا علميا لباحثة يهودية (3)، يركز على كيفية تجريم حياة العرب منذ 1948 خلال الحكم العسكري من خلال التركيز على المكانة السياسة للفاعل (أي انه عربي) والتي تقرر هل هو مجرم أو غير ذلك. وفق هذا البحث، ففي السنوات 1948-1966 (فترة الحكم العسكري في المناطق العربية) كان 30% من المتهمين في الجرائم ، وفق إحصائيات الشرطة، عرب ( 3 أضعاف من نسبتهم في إسرائيل آنذاك) في حين أن نسبة الجرائم ذات المكانة السياسية كانت 40% من مجمل هذه الاتهامات الجنائية.

هذه الأفعال تعتبر عادية بل شرعية من منطلق حياة الأقلية السياسية ولكن بسبب تواجد الحكم العسكري أصبحت هذه الأفعال ذات طابع جنائي. فخلال فرض الحكم العسكري تم تقييد حرية وحركة المواطنين كطريقة للسيطرة على العربي، بالتالي بمجرد تنقل العربي من منطقة إلى منطقة يتم اعتقاله واتهامه بجريمة جنائية، وبالتالي فآلاف من السكان العرب تم اعتقالهم واتهامهم وإدانتهم وحجزهم في السجون لعدة سنوات. من هنا نرى أن أفعال عادية للعربي أصبحت جريمة يعاقب عليها القانون، بالتالي تم تجريم الحياة العادية للعربي بسبب هويته.

وما يحصل منذ 2009 خاصة، أن الأكثرية اليهودية تقوم بسن القوانين التي تحد من حركة وحرية الفلسطيني فــ “قانون النكبة”، على سبيل المثال، يجرم حياة الفلسطيني مجرد مشاركته في زيارة للقرى المهدمة منذ 1948. إن أغلبية الجرائم المسماة “خرق النظام العام” هي أفعال تعكس المكانة القومية للفاعل العربي.

يؤدي اعتقاد الأغلبية الحاكمة أن أفعال العربي هي جرائم مهددة لمصالحه إلى فرض أجهزتها بشكل متباين على فئات سكانية مختلفة (عرب مقارنة باليهود) وبالتالي تنتج هذه الأجهزة عملية تجريم لحياة السكان والذين تعتبرهم هذه الأجهزة مهددة لهم.

في أحوال كثيرة، تمثيل بارز للأقلية العربية في الإحصائيات الجنائية لا يعكس الحقيقة أنهم مجرمون وعنيفون بالمعنى البسيط  للكلمة. لا تعكس هذه الإحصائيات تغييرا على مستوى سلوك أفراد الأقلية، إنما تغييرا في سياسة تكوين وفرض القوانين. أي أن التركيز على وصمة العربي أنه الأكثر إجراما وعنفا نابع من نظرة الأغلبية وخاصة القيادة الحاكمة وليس نابعا من أنهم حقيقة مجرمون وعنيفون. تحصل هذه الوصمة في سياق ما يسمى “ثقافة السيطرة”، ومن ضمنها عملية إنتاج الإحصائيات الجنائية.  

الإحصائيات في خدمة السياسات والعقائد

يعتبر تطبيق القانون في وسط الأقلية القومية عملية تشريع لعدم المساواة ووسيلة  لفرض السيطرة السياسية، ليس بالضرورة أسلوبا لحماية الحقوق المدنية للأقلية. إن تطبيق القانون كما تراه الشرطة في وسط هذه الأقلية ينتج إحصائيات يتم استخدامها لتأكيد ولصيانة أفكار الأغلبية بشأن علاقة أفراد الأقلية مع العنف والجريمة. من الأبحاث الهامة والوحيدة هو بحث (4) يتطرق للجريمة في وسط العرب الفلسطينيين وتحليلها من منطلق نظرية السيطرة الاجتماعية ومن خلاله يتم النظر للإحصائيات كمقياس لا يعكس الحقيقة الاجتماعية أو الكمية المفترضة للسلوك الإجرامي وإنما تقيس عمليات السيطرة الاجتماعية.

يستنج هذا البحث أن الإحصائيات الجنائية محدودة الضمان ومشكوك فيها. بالتالي من الضرورة، حين تحليلها، فحصها بحذر لأنها فعلا تقيس العلاقة بين هوية الفاعل (المعتقل) وبين فعاليات أجهزة السيطرة. الاستنتاج الهام الذي يود المقال التركيز عليه هنا أن هنالك صعوبة قصوى في تفسير الإحصائيات الجنائية في أوضاع سياسية كما هو الحال في وسط المجتمع الفلسطيني منذ 1948.  وفق هذا الحال، من المفترض النظر لأجهزة السيطرة الجنائية كسيطرة سياسية، من ناحية أن تطبيق القانون وسط أقلية يتخذ طابعا عسكريا. يحاول تطوير هذا الاتجاه النظري كثير من الأبحاث التي أجريت في مجتمعات تعتبر فيها الأقليات عنوانا للقمع والإحباط (5).

تتبنى الشرطة هذا الطابع العسكري التي تصنف أيا من الحالات يمكن تعميمها على وسائل الإعلام بواسطة الناطق باسمها. من البديهي القول أن أغلبية الصحافة العبرية وجزء من العربية المحلية تلعب دورا جوهريا في نشر الأفكار والعقائد التي تؤامن بها الشرطة.  هنا أريد التنويه لعدة ملاحظات حول الإحصائيات الشرطية:  فالإحصائيات الشرطية هي بناء لواقع قد يكون بعيد كل البعد عن حقيقة العنف والجريمة في مجتمع محدد؛ حيث تعكس ردود فعل رسمية تجاه فئة سكانية المعرفة كمهددة لقيم أو مصالح أيديولوجية لأغلبية حاكمة، التي بدورها تبني وتطبق القانون. تعتبر ردود الفعل هذه مقاييس وفقها يتم تعريف وتصنيف أي الأفعال هي الجنائية وأي منها ليس جنائية. 

هنالك أربعة مقاييس، على الأقل، التي تحدد مميزات الجريمة ومميزات المجرمين في وسط فئة سكانية محددة هي: (1) مدى الجريمة: وجود فارق شاسع بين الانحراف الحقيقي في المجتمع وبين حالات الجرائم المعروفة للشرطة، (2) شكل الجريمة: تركيز ردود فعل الأجهزة الرسمية مثل الشرطة على بعض الأفعال وتجريمها، وعدم إبراز أخرى (مثل التركيز على قضايا القتل التي تحدث في الوسط اليهودي، أو القضايا التي تكون ضحيتها يهودا؛ التركيز على تجارة الأسلحة في حال أن مصدر الأسلحة هي الضفة الغربية أو عبر الحدود)، (3) اتجاه الجريمة: التركيز على اتجاه محدد من الجرائم، مثل اتجاه الجرائم السياسية أو “الأمنية” و (4) تواتر الجريمة: التركيز على أفراد ذوي سوابق “خرق النظام العام” أو سوابق سياسية “أمنية”. 

إضافة إلى ذلك، فالإحصائيات هي نتاج للقرارات المتخذة في كل مرحلة من مراحل التعامل مع الملفات أو الأشخاص فعدد المعتقلين أكثر من عدد المتهمين ومن عدد المدانين، وهنالك الجرائم المكشوفة التي فيها المجرم والضحية واضحون مقارنة بالجرائم التي فيها معروفة فقط الضحية وهناك الشكاوى لحدوث جريمة بدون معرفة الفاعل.

تعكس إحصائيات الشرطة، ومنذ العام 2007 توجه واضح وثابت بشأن فتح ملفات جنائية ضد معتقلين عرب وخاصة في مجال التهم المرتبطة بما يسمى “خرق النظام العام” ومجال التهم “الأمنية” وتهم في مجال العنف الجسماني والقتل في حين أنه حصل انخفاض في السنوات 2007-2010 ل

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات