بلا أوكسجين في المقاطعة

كمن يتنقل بين الركام في منطقة ضربها زلزال، كانت طريقنا إلى مكتب القائد الفلسطيني الشهيد ياسر عرفات، بعد حملة قصف وتدمير طالت مقره خلال العدوان الاجتياحي الهمجي الذي شنته “إسرائيل” في الضفة الغربية، وكثّفت فيها قصف مقر الرئيس الراحل، حيث لم يبق من المبنى الضخم الذي يسميه الفلسطينيون “المقاطعة”، سوى مكتب الرئيس وقليل من الغرف المحيطة. عندما دخلنا المكتب وجدناه أشبه بمتراس، أكياس من الرمل على المدخل ومثلها على نافذتين صغيرتين مقابلتين لبنايات يعلوها قناصة الاحتلال. لكن ما صرف أنظارنا عن تلك المظاهر المتراسية، وجود جهازين مرتبطين في زاويتين من زوايا المكتب، فسألنا الرئيس عن وظيفتهما. بعد أن تنهّد قال، إن فحصاً لهواء المكتب أظهر نقصاً في الأوكسجين بنسبة 60 في المئة.
سألناه عن الفرق بين ما واجهه في بيروت وما يواجهه في رام الله، فقال إن الوضع في بيروت كان أقل وطأة، وقبل أن نعبّر عن استغرابنا، حيث نعلم أن العدوان على لبنان حينها كان يشبه الجحيم، استدرك قائلاً “في بيروت كنا نتلقى الضرب ونرد عليه.. يقصفوننا ونقصفهم وندمّر دباباتهم وأسرنا منهم جنوداً، أما هنا فنحن نتعرّض للضرب ولا نملك الرد”.
لماذا فعلوا هكذا بقائد حاز جائزة نوبل؟ لأنه خيّب توقعاتهم بأن يقبل تحوّل خدعة أوسلو إلى حل نهائي، ولأنه رفض إملاءات بيل كلينتون في “كامب ديفيد”، ولأنه رفض التفريط بالقدس وخذلان أبنائها المرابطين الصارخين: يا وحدنا. عندما حاول كلينتون استنساخ التقسيمات الأبجدية التي احتواها “أوسلو” وتقسيم المسجد الأقصى إلى ألف وباء وجيم، قال لا كبيرة صعقت رئيس أمريكا الذي رد غاضباً: هنا لا أحد يقول لا، فما كان من عرفات سوى الحسم: أنا أقول لا، وأدعوك من الآن لحضور جنازتي.
ذات ليلة طالعنا خبر عاجل على الشاشات: “إسرائيل” أمهلت ياسر عرفات عشرين دقيقة للخروج من المقاطعة وتسليم نفسه وإلا تعرض للقصف. ما هي إلا دقائق حتى خرج آلاف الفلسطينيين إلى شوارع رام الله بالصحون والطناجر، ربطوا حاويات القمامة بالسيارات وانطلقوا بها. كان صوت الضجيج يملأ الفضاء قبل أن تصبح المقاطعة نقطة صغيرة في بحر من البشر. سقط شهداء من معارضي عرفات قبل مؤيديه، وقدّم الفلسطينيون درساً في جدل العلاقة النظيفة بين الموالاة والمعارضة قاعدتها أن التوحّد في وجه العدو الخارجي أول أبجديات الوطنية. منذ تلك اللحظة أدركت “إسرائيل” أن التخلّص من هذا القائد لا يكون إلا بطرق “أخرى”، وهذا ما كان، ورحل قائد الفلسطينيين الذي كانوا يختلفون معه كثيراً لكنهم لم يختلفوا عليه، الرجل الذي أخطأ كثيراً كما أصاب كثيراً، ومازال كاتب هذه السطور مختلفاً معه والطريق الذي اختاره، لكنه يبقى القائد الذي نجح في أن يكون الخيمة التي ظللت جميع الفلسطينيين بقليل من الاتفاق السياسي والكثير من العاطفة الأبوية.
سبع سنوات مرت على استشهاد مؤسس الثورة الفلسطينية المعاصرة فيها الكثير من الإنجازات والكثير من الإخفاقات والخيبات، وإن كنا لم نحرر أي شبر من فلسطين، لكننا أصبحنا موجودين على خريطة أكثر القضايا عدلاً في العالم بفضل الثورة التي جدّد انطلاقتها عرفات وكوكبة من القادة الذين رحلوا قبله وبعده، كأبو جهاد وأبو إياد وجورج حبش وأبو علي مصطفى وأحمد ياسين وغيرهم ممن قضى نحبه ومن ينتظر ولم يبدّل جوهره، وبقي ممسكاً بجمرة المبادئ ولو خلف القضبان.
صحيفة الخليج الإماراتية
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

تحذير أمني من تكرار جيش الاحتلال الاتصال بأهالي غزة وجمع معلومات عنهم
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام حذرت منصة أمن المقاومة (الحارس)، الأحد، من تكرار جيش الاحتلال أسلوبا خداعيا عبر الاتصال على المواطنين من أرقام تُظهر...

الزغاري: نرفض المساس بحقوق أسرانا وعائلاتهم
رام الله – المركز الفلسطيني للإعلام قال رئيس جمعية "نادي الأسير الفلسطيني" الحقوقية، عبد الله الزغاري، إنّ صون كرامة أسرانا وحقوق عائلاتهم يشكّل...

الأورومتوسطي: حديث نتنياهو عن مواصلة هدم بيوت غزة نسخة معاصرة للتطهير العرقي
جنيف – المركز الفلسطيني للإعلام قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، إن حديث رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، عن أن "إسرائيل ستواصل تدمير بيوت...

حماس تعلن نيتها إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي مزدوج الجنسية الأميركية عيدان ألكسندر
الدوحة – المركز الفلسطيني للإعلام قال رئيس حركة "حماس" في غزة، رئيس الوفد المفاوض، خليل الحية، الأحد، إنه "في إطار الجهود التي يبذلها الإخوة الوسطاء...

البرلمان العربي يدعو لتأمين ممرات إنسانية عاجلة إلى غزة
القاهرة – المركز الفلسطيني للإعلام وجه البرلمان العربي رسائل عاجلة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، والمفوض السامي لحقوق الإنسان، والمديرة...

نتنياهو: سنضم 30% من الضفة الغربية
رام الله – المركز الفلسطيني للإعلام قال رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إن تل أبيب "ستكون قادرة على ضمّ 30%" من الضفة الغربية....

الجهاد: لن نطلق سراح أسرى الاحتلال ما لم تتوقف الحرب
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام قال نائب الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي محمد الهندي، إن المقاومة الفلسطينية لن تطلق سراح الأسرى الإسرائيليين ما...