الإثنين 12/مايو/2025

سود أميركا بين العرب وأنصار إسرائيل

سود أميركا بين العرب وأنصار إسرائيل

لأنني كرست الجزء الأكبر من عملي الأكاديمي لدراسة الولايات المتحدة الأميركية، فقد أدركت منذ وقت مبكر أن سود أمريكا بمثابة حلفاء طبيعيين لنا نحن العرب. وقد انبنت قناعتي الفكرية تلك على أسباب عديدة، منها مثلا أن معاناة سود أمريكا من الاضطهاد والتمييز، تجعلهم أكثر ميلاً من غيرهم لتفهم معاناة الشعوب الأخرى.

لذلك فإن السود في أميركا ربما هم أكثر الجماعات تشككاً في الروايات الرسمية، خصوصاً التي تقدمها الأجهزة الأمنية. فهم يعرفون جيداً أن من تطلق عليه السلطات الأمريكية صفة “إرهابي”، ليس بالضرورة كذلك. فهم اختبروا ذلك بأنفسهم، فقد وصفت تلك السلطات نفسها مارتن لوثر كنغ زعيم حركة الحقوق المدنية، بـ”الإرهابي” في الستينيات، وكان الرجل يخضع لمراقبة أجهزة الأمن الأمريكية تلك، بحثاً في سجله عما يمكن أن يشينه. والكثير من رموز وقيادات السود في تلك المرحلة التاريخية المهمة، اتهموا بالإرهاب.

بل أكثر من ذلك، فإن نيلسون مانديلا ظل “إرهابياً” في الولايات المتحدة، طوال فترة كفاحه ضد العنصرية في جنوب إفريقيا، وهو الوصف الذي لم يتم إسقاطه رسمياً إلا بقرار من الكونغرس منذ سنوات ثلاث. معنى ذلك كله، أن الأمريكيين السود ربما هم الأكثر ميلاً للتعاطف مع كفاح الشعوب من أجل الحرية والعدل.

ولا يقل أهمية عن ما سبق، ذلك الدور المحوري الذي لعبته الكنيسة السوداء في حركة الحقوق المدنية. فلأن الكنيسة السوداء كانت المؤسسة الوحيدة التي لا يملكها البيض، فقد صارت بالنسبة للسود هي الملاذ والملجأ، وصارت أيضاً المصدر الأساسي لتفريخ الرموز القيادية، بمن في ذلك مارتن لوثر كنغ.

والكنيسة السوداء كانت قد قرأت الكتاب المقدس، باعتباره كتاباً ثورياً يناهض الظلم ويحارب كل أشكال الاضطهاد. ومن هنا فإن حركة الحقوق المدنية، التي تزامنت في الستينيات مع حركات التحرر الوطني في العالم الثالث، أيدت تلك الحركات منذ البداية، لأن سود أمريكا وجدوا في كفاحها خبرة مشابهة لكفاحهم من أجل العدل والحرية في المجتمع الأمريكي. وفي الوقت الذي أيدت فيه تلك الرموز، حركات التحرر الوطني المختلفة بما فيها حركة التحرير الفلسطينية، فقد وقفت موقفاً قوياً مناهضاً لحكومة جنوب إفريقيا ونظامها العنصري.

وقد كان الموقف من فلسطين ومن جنوب إفريقيا، من أهم أسباب الصدع التاريخي الذي حدث في علاقة السود باليهود في ذلك الوقت، رغم تحالفهم في المراحل الأولى لحركة الحقوق المدنية. فقد كافحت رموز يهودية كثيرة، جنباً إلى جنب مع الرموز السوداء، من أجل المساواة ووضع نهاية للعنصرية والتمييز في المجتمع الأمريكي. لكن موقف “إسرائيل” الداعم لحكومة جنوب إفريقيا العنصرية، ومواقفها الرجعية من كل قوى التحرر الوطني وقتها، ثم امتناع اليهود الأمريكيين عن إدانة ذلك الموقف الإسرائيلي، كان مصدر استياء بالغ لدى السود، بينما لم تقبل الرموز اليهودية تأييد السود لحركة التحرر الوطني الفلسطينية.

بعبارة أخرى؛ فإن قناعتي بأن السود حلفاء طبيعيون لنا، لم تكن مبنية فقط على اعتقادي بأن خبراتهم ستؤثر – على الأرجح – في تفاعلهم معنا، وإنما كانت مبنية على وقائع تاريخية محددة، من تأييد واضح ومباشر لحركات التحرر الوطني.

لذلك، ما من مناسبة أتيحت لي في الإعلام المرئي والمكتوب، أو في الدوائر السياسية المعنية، إلا ودعوت من خلالها للاهتمام بفتح قنوات، ليس فقط مع الرموز السوداء، وإنما مع مجتمع السود نفسه. لكنني كنت أعجب من ردود أفعال دبلوماسيينا إزاء ما أقول. فنظراتهم كانت تحمل استعلاء واضحاً، يقولون معه وكأنهم يفشون سراً، إن الجماعة السوداء، بل وزعاماتها ليست مؤثرة في السياسة الأمريكية!

ولطالما انزعجت من تلك المقولة، التي تكشف عن جهل بالسياسة الأمريكية من أكثر من زاوية. فهي إحدى تجليات الميل العربي للاقتراب من أعلى سلم صنع القرار في أمريكا، بينما القرارات تتشكل وتصنع فعلياً في المستويات الأدنى، ثم يوافق عليها أعلى السلم. لكن الأهم من كل هذا، هو أن الحديث عن الجماعة السوداء ككتلة واحدة، ثم الحكم عليها بالمطلق بأنها غير مؤثرة، أمر ليس له محل من الإعراب. فأنت حين تسعى لخلق تحالف، فإنك تبنيه على المدى الطويل، لا الآني والقصير. فليس صحيحاً أن الجماعة السوداء ليست مؤثرة بالمطلق. ففي الكونغرس مثلاً، ولأن تولي المناصب القيادية يكون عبر خليط من الأقدمية والانتخاب، فقد صار هناك عدد لا بأس به من السود على رأس لجان مهمة وبالغة الحيوية بالنسبة لمصالحنا.

ولعلك تسأل، عزيزي القارئ، ما مناسبة كل تلك القصة الآن؟ والإجابة هي أن أنصار “إسرائيل” يسعون اليوم لفعل ما كان ينبغي أن نفعله نحن. فهناك منذ فترة، حملة مكثفة تزداد قوة يوماً بعد يوم، تقوم بها منظمات المسيحية الصهيونية، بالتنسيق مع المنظمات اليهودية المناصرة لإسرائيل، هدفها اجتذاب القيادات الطلابية السوداء في كافة الجامعات الأمريكية، وذلك عبر دعوتهم ليس فقط لزيارة “إسرائيل”، وإنما عبر دعوتهم لحضور اجتماعاتهم ومنتدياتهم لإقناعهم بدعم “إسرائيل”. ومن الواضح طبعا، أن أنصار “إسرائيل” يراهنون على الأجيال الجديدة من السود التي لا تحمل ميراث حركة الحقوق المدنية، ولم تكن طرفاً في التوتر بين السود واليهود بسبب مواقف “إسرائيل” الرجعية.

لكن الأخطر من ذلك، أن أنصار “إسرائيل” يسعون اليوم لاستغلال تدين السود لصالح “إسرائيل”، وذلك عبر الاقتراب من رواد الكنيسة السوداء، وربط “إسرائيل” بالتفسير الحرفي للكتاب المقدس، كما يفعل المسيحيون الصهاينة.

أتابع تلك التطورات، وأشعر بالحسرة من موقف العرب جميعاً، الذين لم يحركوا ساكناً.. لا قبل هذا التطور ولا بعده.

[email protected]

صحيفة البيان الإماراتية

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات