صفقة إطلاق الجاسوس جرابيل وإعلام التضليل

التعاطي الإعلامي مع صفقة إطلاق الجاسوس الإسرائيلي إيلان جرابيل نموذج مثالي للتدليل على حالة الإعلام المصري ما بعد احتواء الثورة، وتفسير سبب إعادة وزارة الإعلام واختيار محرر عسكري لتولي مهمتها في هذا التوقيت، لضمان العودة إلى إعلام التعبئة والتوجيه للجماهير، على نحو يخدم مصلحة السلطة العسكرية الحاكمة، حتى لو على حساب الحقيقة والمصداقية والقواعد المهنية المتعارف عليها.
وللأسف كان رهاننا على إصلاح تليفزيون الدولة، وجعله ينتمي لدافعي الضرائب لا الحكام، خاسراً، فلا يزال يعمل بمنطق “عبد المأمور”، بلا استقلالية ولا رؤية ولا مهنية، ناهيك عن السيطرة على المحطات الخاصة ودفعها بترغيب أو ترهيب مالكيها من رجال الأعمال، للالتزام بالخطوط الحمر التي تزداد يوماً بعد يوم، رغم إدعاء الانفتاح والحرية والأجواء الثورية.
فقد مارس الإعلام التضخيم للحدث والتضليل بمنطق الدعاية والتسويق السياسي الذي يصب في خدمة أهداف محددة، عبر بث على الهواء طوال اليوم لإجراءات تبادل السجناء من النقطة الحدودية للتسليم، مع استضافة ضيوف محسوبين على النظام للتعليق المحدد الأطر، وسط خطاب مضلل يعمد إلى الخلط بين السجين المتهم في قضايا جنائية كتهريب المخدرات أو التسلل أو الإقامة غير الشرعية وغيرها، وبين الأسير نتاج عمليات حربية ومقاومة لعدو، فضلاً عن محاولة تسويق الأمر أنه انتصار لجهاز الاستخبارات وانجاز يستكمل جهود المصالحة الفلسطينية التي ليست سوى حبر على ورق حتى الآن، وصفقة إطلاق الأسرى الفلسطينيين مقابل الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط التي لها ظروف وملابسات مختلفة تماماً، وأبعاد إقليمية ودولية معقدة.
ووصل الأمر إلى ذهاب محافظي شمال وجنوب سيناء لاستقبال المجرمين بالزهور، والترحاب بهم كما لو كانوا عائدين من أرض المعركة، وليسوا أشخاصاً أساءوا لمصر بإقامتهم في أرض العدو أو السعي للتربح منه حتى لو بتجارة غير مشروعة، في مشهد يدعو للسخرية التي وصلت قمتها في المؤتمر الصحفي الذي أقاماه، ليتحدثا عن صفقة لا يعرفان تفاصيلها، أو لم تُصدر لهما الأوامر للخوض فيها، ما دفع إحدى الصحفيات إلى إحراجهما بالقول طالما لا تملكان معلومات لماذا لم يأت أحد مسؤولي الاستخبارات ليتحدث هو، فيما تأتي المعلومات من تل أبيب عن وصول الجاسوس جواً من القاهرة، وليس عبر منفذ طابا البري، بينما يمارس الإعلام المصري والرسميون الإخفاء حتى النهاية لمعلومة لا تتسم بالحساسية، غير أنها تفضح المصداقية، وأن الضجة الإعلامية مفتعلة، وليست سوى ضجيج بلا طحن مقصود منه تلميع دور جهاز الاستخبارات الذي يتعرض لانتقادات واسعة بعد إقحامه في ملفات تتجاوز دوره الأمني إلى لعب أدوار سياسية في ملفات حساسة، من صميم عمل الديبلوماسية ومؤسسة الرئاسة.
وربما لا يدرك هؤلاء الذين يتبرعون بحملة تسويق جهاز الاستخبارات أن دعايتهم التي تستند إلى التضليل والتضخيم تأتي بنتائج عكسية تضر أكثر مما تفيد، وأن إبقاء هذا الجهاز الأمني الحساس بعيد عن الجدل الإعلامي والسياسي خير له، لأن وضعه في دائرة الضوء كصانع قرار ومفاوض سياسي يخرجه من دائرة دوره الرئيس في جمع المعلومات ورصد وتحليل الأخطار المحدقة بالأمن القومي، ورفع تقارير بشأنها لصانع القرار السياسي المنوط به اتخاذ القرارات اللازمة، ومن ثم يخضع لتقييم الأداء والنقد الذي قد ينال من صورته كمؤسسة لها هيبتها ودورها الوطني المقدر.
فصفقة تبادل السجناء المصريين بالجاسوس الإسرائيلي على سبيل المثال، لا يمكن بحال من الأحوال نسبتها إلى جهاز الاستخبارات حتى وإن قام بدور فيها، لأنها لم تكن لتتم دون موافقة المجلس العسكري الحاكم الذي يحل محل الرئيس المخلوع مبارك صاحب القرار الأول والأخير، وأنه إذا وضعناها موضع التقييم فإنها صفقة فاشلة جرى فيها الرضوخ للضغوط الأمريكية الإسرائيلية، ولا ترقى لصفقة شاليط التي عليها مآخذ عديدة هي الأخرى.
وليست التغطية الإعلامية المبالغ فيها والخطاب الموجه نحو اعتبارها نصراً وانجازاً إلا محاولة للتغطية على الفشل والنتائج الهزيلة لها. ولو كان ثمة تفاوض حقيقي ورغبة في صنع انجاز يستحق الإبراز الإعلامي لكان قد تم التشدد في ضرورة إطلاق كل السجناء المصريين في السجون الإسرائيلية، وعدد من الأسرى الفلسطينيين، خاصة النساء، وإطلاق الشيخ عمر عبد الرحمن القابع في السجون الأمريكية حتى يكون ثمة ثمن مقبول لمثل هذه الصفقة التي يتم فيها تبادل جاسوس بسجناء جنائيين عاديين، لا يمثلون نفس خطورته ولا تهديده، وحتى يمكن القول إن ثمة إرادة سياسية مستقلة وتحول نوعي في الأداء السياسي للسلطة الحاكمة ما بعد ثورة يناير.
أما اللجوء إلى الإعلام لبيع بضاعة فاسدة، وصنع حدث من لا حدث، والعودة لمدرسة غسيل الأدمغــة وحقنها بالأكاذيب فقد ولى زمانها، وباتت أشبه باللعب بالنار التي حتماً ستحرق من يلجأ إليها إن عاجلاً أو آجلاً.
* كاتب صحفي مصري
صحيفة القدس العربي اللندنية
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

مؤسسات الأسرى: تصعيد ممنهج وجرائم مركّبة بحق الأسرى خلال نيسان الماضي
رام الله - المركز الفلسطيني للإعلام واصلت سلطات الاحتلال الإسرائيلي خلال شهر نيسان/ إبريل 2025 تنفيذ حملات اعتقال ممنهجة في محافظات الضفة الغربية،...

إضراب جماعي عن الطعام في جامعة بيرزيت إسنادًا لغزة
رام الله- المركز الفلسطيني للإعلام أضرب طلاب ومحاضرون وموظفون في جامعة بيرزيت، اليوم الاثنين، عن الطعام ليومٍ واحد، في خطوة رمزية تضامنية مع سكان...

القسام تفرج عن الجندي مزدوج الجنسية عيدان ألكساندر
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أفرجت كتائب الشهيد عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، عند الساعة 6:30 من مساء اليوم...

خطيب الأقصى: إدخال القرابين يجب التصدي له بكل قوة
القدس – المركز الفلسطيني للإعلام استنكر خطيب المسجد الأقصى الشيخ عكرمة صبري، محاولة يهود متطرفين إدخال قرابين إلى ساحات المسجد الأقصى، معتبراً أنه...

حماس: المؤسسات الأممية هي الوحيدة المختصة بتوزيع المساعدات بغزة
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام قالت حركة حماس، إن المجاعة في قطاع غزة تشتدّ بشكل كارثي وسط استمرار الحصار ومنع دخول الغذاء والدواء. وأكدت في بيان...

إطلاق الأسير ألكسندر يفجر غضب عائلات باقي الأسرى على نتنياهو
الناصرة - المركز الفلسطيني للإعلام فجّر قرار حركة حماس إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي الأمريكي عيدان ألكسندر من قطاع غزة غضب عائلات باقي الأسرى...

حرّاس الأقصى يحبطون محاولة ذبح “قربان تلمودي” في باحات المسجد
القدس المحتلة - المركز الفلسطيني للإعلام أحبط حُرّاس المسجد الأقصى المبارك، صباح اليوم الاثنين، محاولة مستوطنين إدخال "قربان حي" إلى باحاته عبر باب...