الإثنين 12/مايو/2025

السفارة وسياق الثورة

السفارة وسياق الثورة

ليس الشعور العاطفي هو المدخل الصحيح لتناول الغضبة الشعبية المصرية ضد سفارة “إسرائيل” في القاهرة. المسألة تتجاوز منطق التصفيق والتهليل والإشادة من جانب المتألمين لما فعلته “كامب ديفيد” بمصر، إذ أزاحتها عن موقعها القيادي للأمة العربية ومن الصراع العربي الصهيوني برمّته، وتتجاوز أيضاً صرخات الاستنكار والإدانة التي أقامت الدنيا ولم تقعدها في معظم عواصم العالم، كما تتجاوز التعامل مع المتظاهرين بقانون الطوارئ، أحد عناوين الغضب للثورات العربية.

إذا نحّينا جانباً أصل الأشياء وطبيعتها واعتمدنا الحد الأدنى للمسار الدبلوماسي ومبدأ الحلول السياسية التي قامت منذ مطلع السبعينيات على أساس تسوية نزاع بدلاً من حسم صراع، فإن “كامب ديفيد” لم تقدّم نموذجاً لهذه التسوية، لا بين “إسرائيل” ومصر، ولا بين “إسرائيل” والعرب. فما يسمى بالسلام الذي حملت اسمه معاهدة “كامب ديفيد”، بقي طوال أكثر من ثلاثين عاماً بين حكومتين، ولم يكن الشعب المصري قادراً على هضمه، ولا تعامل معه كأمر موجود، ولا حتى وسائل الإعلام المصرية، بما فيها الحكومية، تعاملت مع “إسرائيل” كطرف في معاهدة.

وفي العمق، يتضح جلياً أن الواقع أقوى تماماً من الافتراض، لأن القضايا الرئيسة في حياة الأمم ليست عجينة يسهل التلاعب بها، ولا بد لمنطق التاريخ أن يفرض نفسه على كل التوجهات الرغائبية، وعلى النوايا ساءت أم حسنت، وبافتراض تنحية العوامل الطبقية الكامنة خلف الممارسة السياسية. من هنا لا يكمن عقم “كامب ديفيد” في كونها “سلاماً منفرداً”، بل لأنها من الناحية “الإسرائيلية” والغربية استخدمت على نحو تكتيكي أساسه وجوهره انتزاع مصر، بكل ما تعنيه من قوة وريادة، من جسدها العربي ليسهل نهشه وتطويعه خدمة لمشروع صهيوني أبعد مدى.

لم يكن مستهجناً، والحالة هذه، أن “إسرائيل” صعّدت بعد “كامب ديفيد” قبضتها الحديدية وشنت حملة استيطانية محمومة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وزادت وتيرة اعتداءاتها على لبنان، وصولاً إلى اجتياحه في يونيو/ حزيران ،1982 وإخراج معظم الجسم التنظيمي والعسكري لمنظمة التحرير الفلسطينية، وارتكاب مجزرتي صبرا وشاتيلا التي راح ضحيتها آلاف اللاجئين الفلسطينيين.

الخطأ الاستراتيجي الكبير الذي وقع فيه قادة “إسرائيل”، أنهم تجاهلوا بديهية بسيطة تقول إن السلام يعقد بين الشعوب وليس الحكومات، واعتقدوا أنهم إذا أخرجوا مصر الرسمية من الصراع يمكنهم أن يفعلوا ما يريدون بباقي الدول العربية من دون أن يشعر الشعب المصري بأنه معني بجرائمهم. حتى إبان الثورة المصرية، راح المعلّقون “الإسرائيليون” يتسابقون إلى طمأنة أنفسهم وتجمّع المستوطنين بأن الثورة لا تتعدى رغيف الخبز وكأس الحرية، ونسوا أن الدافع الأساس وراء الثورة هو الإحساس بغياب الكرامة وفقدان الدور وتبخّر الطليعية التي تليق بمصر. لم تكن “إسرائيل” بحاجة، من الناحية العملية، إلى إعلان الحرب على غزة من القاهرة، لكنها قامت بذلك بغباء.

ليس حادث اقتحام السفارة الأخير معزولاً عن الصراع التاريخي كعنوان لا يمكن إلغاؤه بمعاهدة أو مكاتب تجارية أو علاقات سرية وعلنية، ولا هو مجرد رد على الاعتداء على الجنود المصريين، ولا الاعتداءات المقبلة، بل نعتقد أنه جزء من دينامية لن تتوقّف مفاعيلها قبل إعادة الأمور إلى نصابها، وهي قاهرة بلا سفارة.

[email protected]

صحيفة الخليج الإماراتية

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات