عاجل

الإثنين 12/مايو/2025

السفارة «بره» العمارة!

السفارة «بره» العمارة!

مع انطلاق جموع الشباب المصري الغاضب لاقتحام السفارة الإسرائيلية بالقاهرة، اختلط هذا العمل غير المسبوق، بموقف شخصي تعرضت له.

منذ نحو عام وأحد قيادات الجريدة التي أعمل بها في مصر يطلب مني أن أحل محله وأقوم بعمله في غيابه. كنت أرفض لوجود شبهة «انتهازية» في الموضوع. هو يريد أن أتحمل أعباء تخصه ويحصل مقابلها على مزايا عديدة. بينما أقوم أنا بنفس العمل دون أن يصيبني أي عائد معنوي أو مادي. إنه كثير الغياب وأصبح في مشكلة لعدم وجود من يتولى المهمة عنه. تحول طلبه إلى إلحاح وأحياناً توسلات وأحياناً أخرى ابتزاز. مطاردات تليفونية لا تنقطع واختلاق ذرائع حتى أحمل عنه عبء يوم أو اثنين، ثم أسبوع. اتفقت معه على ضرورة صدور قرار رسمي من الإدارة يحمل صلاحيات ومزايا الموقع الذي يعرضه.

غاب طويلاً، ثم تمخض الجبل فولد «جرذاً» حقيقياً وليس من ذلك النوع الذي تحدث عنه الأخ العقيد الهارب. أتاني بورقة يطلب فيها من الإدارة إصدار قرار بقيامي بهذا العمل. سألت عن حقيقة الورقة فتبين أنها ليست قراراً، بل هي «فخ» لي. فقد أصبحت مسؤولاً عن إدارة أهم قسم في الجريدة ويضم أكبر عدد من الصحافيين. والمقابل: «لا شيء». إنه ومن معه يلتفون على أمور بديهية ويستغفلون العقول. يتعاملون مع المطالب الشرعية والأساسية بنفس المنطق الذي جعل مصر تعود للخلف عشرات السنين. منطق «الهبة» و«المنحة».. أعطه ورقة يسكت بها». مُـسكـن ليس أكثر ثم عليه الصبر والمثابرة والشكوى إلى «أم العجائز» السيدة زينب حتى يحصل على «الفتات»!

كان طبيعياً لأي إنسان يحترم نفسه أن يرفض التعامل بهذا الأسلوب.

ستسألني: ما علاقة اقتحام السفارة بما تعرضت له؟

وأجيبك: إن الموقف الذي سردته، والالتفاف على مطلب قانوني، والاستخفاف بذكاء من أمامك، وإذا حدثت استجابة تكون بـ «القطارة» هو المنطق الذي تدار به مصر كلها منذ عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، وبعد سقوطه!

مشكلة القائمين على شؤون الدولة حالياً أنهم لا يصدقون أن ثورة شعبية اندلعت «تريد تغيير النظام». إنهم من نفس العقلية التي استبعدت أن يكتشف الشعب أن هناك فعلاً مضارعاً في اللغة العربية يسمى «يريد». مقتنعون أن الجماهير عليها «الطاعة» فقط دون «الإرادة».

«الشعب يريد» هو الشعار الذي دوى في السماء منذ تفجر الثورة التي أطاحت بمبارك، لكن السلطة القائمة لا تستوعب حتى الآن أنه «إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر». اعتقد أولو الأمر أن المشكلة في الرئيس المخلوع، فـ «خلعوه»، وبذلك يكونون حققوا المراد من رب العباد، فيعود الثوار إلى بيوتهم راضين مرضيين. وليذهب الرئيس «المتخلي عن الحكم» للاستمتاع بدفء شرم الشيخ وسحرها. ظنوا أن هذه «المنحة» تكفي الشارع، لكن مع رفض جموع الجماهير أن يذهب من أفسد الحياة المصرية طوال 3 عقود انتهت بقتل وإصابة الآلاف من الشباب السلميين الأبرياء، إلى حال سبيله، اضطروا إلى تقديمه للمحاكمة. لم يوقنوا أن «الشعب يريد فعلاً تغيير النظام» كله.. بدءاً من عقلية حكم مبارك، وانتهاء بـ «تطهير» مؤسسات الدولة ممن تشربوا ثقافة «الفساد». اتبع أسيادنا الذين في السلطة أسلوب «الالتفاف» و«الترقيع» عند كل مطلب شعبي، يعيدون تشكيل الحكومات من نفس وجوه النظام الساقط، ويأتون مثل مبارك تماماً بـ «الجنرالات» في مناصب المحافظين. ولما يثور الشعب يجيئون بأحد المعارضين من الأحزاب المستأنسة و «يوّزروه»، واللافت أن أحدهم كان «متعاوناً مخلصاً» مع جهاز أمن الدولة الذي ارتكب فظائع مهولة بحق المصريين.

في كل الأحوال لا يتحركون إلى تحت الشارع.

بعد واقعة اقتحام السفارة الإسرائيلية، خرج المحللون المقربون والمنافقون للسلطة يدينون «تهور» هؤلاء الشباب الذين ورطوا مصر في أزمة دبلوماسية مع «دولة نرتبط معها بمعاهدة سلام». تكلموا كثيراً عن معاهدة «فيينا» التي تحتم حماية السفارات، وراحوا يزيدون ويعيدون القول عن «جريمة» المقتحمين، لكن ولا واحد من السادة المحللين انتبه وتنبه إلى أن هذا الشباب الغض لا يعرفون أسس وقواعد الدبلوماسية. كل ما يدركونه أن “إسرائيل” قتلت مجموعة من أشقائهم الجنود على الحدود دون أن تقدم تعويضاً لأسر الضحايا، أو تكلف خاطرها بمجرد «اعتذار» على الجريمة. كل ما جادت به بعض «الأسف». في المقابل كان رد الفعل الرسمي في القاهرة نفس كلمات الشجب والإدانة التي ملّ الناس من سماعها، حتى بيان سحب السفير عادوا وتراجعوا عنه وأكدوا أنه «بيان كاذب» تماماً مثل «الحمل الكاذب».

قرأ هؤلاء الشباب عن «سعد حلاوة» الذي قامت الشرطة بتصفيته لمطالبته بطرد أول سفير «صهيوني» يدنس القاهرة. سمعوا عن «سليمان خاطر» الجندي الذي نفذ الأوامر بتحذير أي كائن يقترب من مناطق محظور دخولها على الحدود مع فلسطين المحتلة، ثم أطلق النار على المجموعة الإسرائيلية التي لم تستجب لتحذيراته، فكان عقابه الأشغال الشاقة المؤبدة. وفي ظل ارتفاع روحه المعنوية بعد وقوف الشعب المصري كله خلفه للمطالبة بحريته، فإنه وجد «مشنوقاً» في زنزاناته. والرواية الرسمية «انتحار»!

عاصر الشباب بأم أعينهم جواسيس “إسرائيل”، ومبارك يفرج عنهم ويرسلهم معززين مكرمين إلى الكيان المغتصب، والحجة «مصلحة مصر العليا» بين هؤلاء الجواسيس المفرج عنهم «صبحي مصراتي» الذي أتى فعلاً شائنا في المحكمة.. خلع سرواله وتبول في القفص في استهانة بمحاكمته!

سمع هؤلاء الشباب كثيراً منذ تفتحت مداركهم «إكليشيهات» الساسة: «الحذر ثم الحذر من انتهاك اتفاقية السلام حتى لا نستفز “إسرائيل”، إحنا مش قدها عشان ندخل في حرب»، بينما تل أبيب تنتهك كل يوم الاتفاقية دون أن يستطيع أحد أن ينطق أمامها بكلمة، وآخرها قتل الجنود على الحدود.

لا أحد من هؤلاء الشباب يريد الحرب، لكن هناك شيء اسمه «الكرامة الوطنية»، ولكم في «أردوغان» قدوة حسنة يا أولي الألباب.

الكارثة الكبرى كانت في القرار العجيب بإنشاء «جدار عازل» حول السفارة. لم يدرك صاحب القرار كم الاستفزاز الذي سيتركه رؤية المصريين مأساة «الجدار» الذي يخترق الأراضي الفلسطينية ليحمي المستوطنين تتكرر أمام ناظريهم في بلدهم. إنه هنا ليحمي «مستوطني» السفارة الذين يتخفون في الرداء الدبلوماسي.

قبل أن تدينوا «تهور وجريمة» شباب هم من أنقى من أنجبت مصر، عليكم أن تشجبوا سذاجة من افتتح فرعاً في قاهرة المعز لجدار العار!

[email protected]

صحية العرب القطرية

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات