الأحد 11/مايو/2025

الطبقة الوسطى الصهيونية تضمحل والفقراء يزدادون فقراً

الطبقة الوسطى الصهيونية تضمحل والفقراء يزدادون فقراً
تظهر حركة الاحتجاج على أزمة السكن في إسرائيل والتي سرعان ما تحولت أكبر حملة احتجاج اجتماعي تشهدها منذ سنوات، أن عدوى الثورات العربية والاحتجاجات الشعبية قد انتقلت بدورها الى إسرائيل التي تشهد اليوم نوعاً من ثورة الطبقة الوسطى التي تطالب “بالعدالة الاجتماعية” و”التغيير”، وتريد أن تثبت للمسؤولين السياسيين ان “الشعب قادر على أن يقول كلمته” وأن يحقق الاصلاحات التي من شأنها تحسين الأوضاع المعيشية المتدهورة، وتحقيق المساواة والعدل لأبناء الطبقة الوسطى في المجتمع الإسرائيلي.

قبل أسبوع كانت حكومة بنيامين نتنياهو تخطط لكيفية مواجهة شهر أيلول وتضع الخطط العملانية لقمع  التحركات والتظاهرات التي من المنتظر أن يقوم بها الفلسطينيون  لدى اعلان الأمم المتحدة قيام دولة فلسطينية مستقلة. لكن ما لم تتوقعه حكومة نتنياهو ان تتدهور الأوضاع داخل اسرائيل نفسها، وأن يتحول تحرك الشباب الإسرائيلي للاحتجاج على أزمة السكن حركة احتجاج شعبية واسعة النطاق تشمل كل مدن إسرائيل من أقصى الشمال الى أقصى الجنوب.

وتهدد بتحولها “ثورة اجتماعية” حقيقية تقوم بها الطبقة الوسطى في إسرائيل ضد تردي الأحوال المعيشية والظروف الاقتصادية الصعبة التي يعانيها أبناء هذه الطبقة التي تشكل “خزان اليد العاملة” في إسرائيل والقاعدة الشعبية التي تستند اليها قوات الاحتياط في الجيش الإسرائيلي، والعمود الفقري للمجتمع الإسرائيلي بمختلف انتماءاته واتجاهاته.

وخلال الأيام الأخيرة ثبت أن التحرك المطلبي الذي تخوضه الطبقة الوسطى في إسرائيل لا يخضع للاصطفاف السياسي بين اليمين واليسار، ولا للانقسام بين متدينين وعلمانيين، وبين يهود أشكيناز ويهود شرقيين أو يهود روس، وبين سكان المدن الكبرى وسكان مدن الأطراف.

فما يجري هو تحرك شعبي هائل له ديناميته الخاصة الداخلية وأهدافه الواضحة المتمثلة في الثورة على الاجحاف والظلم اللاحقين بالطبقة الوسطى في إسرائيل واعادة الاعتبار إليها من خلال المطالبة بحقها في العيش الكريم ومكافحة غلاء المعيشة والارتفاع الكبير في أسعار السكن، وتحقيق ما يسمونه العدالة الاجتماعية.

“الربيع العربي” الملهم

منذ اللحظة الأولى للتحرك ضد أزمة السكن في إسرائيل، كان واضحاً مدى تأثر هذا التحرك “بربيع الشعوب العربية”. فقد ألهم مشهد الشباب العربي في ساحات المدن الكبرى، لاسيما اعتصام ميدان التحرير في القاهرة، مخيلة الشباب الإسرائيلي لدى دعوته السبت الماضي الى المشاركة في تظاهرة تل أبيب احتجاجاً على ارتفاع أسعار الشقق والتي شارك فيها مئات الآلاف من الإسرائيليين، إذ سرعان ما تحولت التظاهرة خيم اعتصام في جادة روتشيلد في قلب تل أبيب، لتنتقل العدوى الى بلدات ومدن أخرى مثل حيفا والقدس وبئر السبع، فتنتشر خيم الاعتصام ويزداد عدد المشاركين فيها.

ويبدو لافتاً استخدام قادة الاحتجاج  قنوات التواصل الاجتماعي في عملية التعبئة والدعوة الى التظاهر. فذكرت الصحف الإسرائيلية ان أحد قادة الاحتجاج دشن صفحة على موقع “فايسبوك” للدعوة الى اضراب عام في الأول من آب احتجاجاً على تدهور الأوضاع الاقتصادية للطبقة الوسطى، وانضم اليها خلال وقت قصير أكثر من 9000 شخص.

وثمة تشابه كبير بين ردود فعل نتنياهو وحكومته على حركة الاحتجاج وبين سلوك حكام عرب مثل مبارك وبن علي وتصرف النظامين السوري والليبي على الثورات الشعبية في بلادهم. فهناك اولاً رد الفعل الأول للحكومة الإسرائيلية بتقليل أهمية المحتجين وتحركهم واعتبار ما يجري أمراً هامشياً يقوم به بعض “الشبان المدللين” من سكان تل أبيب.

لكن أمام سرعة انتشار موجة الاحتجاج واتساع رقعته بحيث بدأ يشمل فئات واسعة من المجتمع الإسرائيلي، بدأت الحكومة بالتراجع متهمة المحتجين بأنهم يختبئون وراء مطالب معيشية لكن أهدافهم الحقيقية سياسية.

وهاجمت وسائل الاعلام المؤيدة لحكومة نتنياهو اليسار الإسرائيلي واتهمته باستغلال الاحتجاج المطلبي من أجل أهداف سياسية، وحاولت تصوير ما يجري بأنه مواجهة بين اليمين الحاكم وبين اليسار الإسرائيلي الذي خسر السلطة ويحاول العودة الى الحكم من طريق الشارع.

كما حاول بعض الأبواق التابع للحكومة ان يخلق حساسية وعداء بين جمهور المحتجين وجمهور المتدينين باللعب على الحساسيات المعروفة واحياء مشاعر العداء بين المعسكرين لتثبت أن الجمهور الإسرائيلي المتدين لا يشارك في الحركة الاحتجاجية.

غير أنه في وجه اصرار قادة الاحتجاج على لاسياسية تحركهم، وعلى طابعه الاجتماعي والمطلبي البحت، اضطرت الحكومة الى الانتقال الى خطة أخرى فظهر نتنياهو في مؤتمر صحافي ليقول للمحتجين إنه يدعمهم ويؤيد مطالبهم، وانه حذر شخصياً قبل أشهر من انفجار أزمة السكن وطالب بالقيام باصلاحات، لكن اقتراحاته لم تلق آذاناً  صاغية، وحاول أن يلقي المسؤولية على وزيري المال والاسكان وعلى البيروقراطية التي تمارسها دائرة أراضي إسرائيل مما يؤدي الى ارتفاع أسعار الأراضي وتالياً أسعار الشقق.

ولجأ نتنياهو الى خطة “فرّق تسد”، فأعلن في مؤتمره تقديم عدد من التسهيلات للشباب لا سيما طلاب الجامعات في محاولة لكسب ودهم و اخراجهم من الاعتصام. لكن الطلاب الجامعيين أعلنوا إثر المؤتمر رفضهم لما اقترحه نتنياهو وتضامنهم الكامل مع المحتجين والمعتصمين.

وهكذا انتقلت الحكومة الإسرائيلية من موقف الاستخفاف والاستعلاء الى موقف الهجوم والتشكيك وصولاً في نهاية الأمر الى الاعتراف بأن المشكلة حقيقية وكبيرة وتتطلب حلولاً جذرية وليس اجراءات جزئية، لكنه في كل مرة يبدو ان الحكومة فقدت تماماً زمام المبادرة وأن كل ما تقوم به هو خطوة غير كافية ومتأخرة.

فما بدأ قبل أسبوع كحركة احتجاج شبابية تحول اليوم ثورة حقيقية وكشف الخلل الكبير الذي يعانيه الاقتصاد الإسرائيلي الذي يبدو على مستوى الماكرو ناجحاً ومزدهراً ومستقراً، لكنه على مستوى الميكرو يبدو اقتصاداً معطوباً تتعاظم فيه الفوارق الاجتماعية، وتزداد الهوة التي تفصل طبقة الميسورين من الأثرياء عن طبقة الفقراء بعد اضمحلال الطبقة الوسطى وانهيارها.

أسباب التدهور

يشير المحللون الإسرائيليون الى أسباب كثيرة  وعميقة لتدهورالأوضاع المعيشية للطبقة الوسطى، في مقدمها عملية التخصصية التي خضع لها الاقتصاد الإسرائيلي خلال الفترة الأولى من رئاسة نتنياهو الحكومة في 1996 والتي جرى خلالها التحول نحو  اقتصاد السوق والخصخصة حساب الطبقة الوسطى التي خسرت الدعم الرسمي الذي كانت تحظى به والتقديمات الحكومية.

وفتحت الباب امام المنافسة والمضاربة داخل الأسواق، مما أدى الى الارتفاع المتواصل في غلاء المعيشة وفي أسعار المواد الغذائية وأسعار الوقود والاتصالات والمواصلات والارتفاع الجنوني في الايجارات وأسعار الشقق، وزاد معاناة أبناء الطبقة الوسطى من الشباب الذين أدوا خدمتهم الالزامية في الجيش طوال 3 سنوات وخرجوا ليجدوا أنفسهم من دون دخل ومن دون وظائف، الامر الذي  يفسر حجم الغضب والاستياء الشعبيين اللذين يشعر بهما أبناء هذه الطبقة.

كما أدت الخصخصة واقتصاد السوق الى بروز طبقة من “حيتان المال” من العائلات اليهودية الثرية الكبيرة التي تملك أكبر الشركات في إسرائيل وباتت تسيطر على مجمل مجالات الاقتصاد الاسرائيلي الأساسية مثل قطاع الاتصالات والمصارف والتكنولوجيا المتطورة. كل هذا عمّق الهوة بين الأغنياء داخل إسرائيل والفقراء وفاقم محنة الطبقة المتوسطة.

وعلى رغم لا سياسية التحرك المطلبي للطبقة الوسطى، فإن التدهور الذي لحق بها يثير مسائل وموضوعات أخرى حساسة داخل المجتمع الإسرائيلي تتعلق بالفوارق الكبرى في تعامل الحكومة مع أبناء الطبقة المتوسطة داخل المدن والبلدات الإسرائيلية والتعامل معها في المستوطنات اليهودية الواقعة خارج الخط الأخضر.

ففي رأي أكثر من محلل اقتصادي أن الحكومات الإسرائيلية دأبت على تقديم تسهيلات كبيرة لعائلات المستوطنين، كما سمح البناء في المستوطنات، الذي كان السبب الأساسي في وقف المفاوضات وتجميد العملية السياسية بين الإسرائيليين والفلسطينيين، للمستوطنين بشراء منازل رخيصة الثمن مدعومة من الحكومة، الى جانب اعفائهم من الرسوم البلدية وحصولهم على خفوضات ضريبية وعلى الدعم الحكومي لقدرتهم الشرائية بهدف تشجيعهم على البقاء في المستوطنات في المناطق المحتلة.

لكن التمييز بين أبناء الطبقة الواحدة لا يتوقف عند هذا الحد، فهناك العبء المالي الكبير المترتب على الانفاق الأمني للجيش الإسرائيلي من أجل حماية المستوطنين ومعالجة ما يسميه الجيش “الحوادث الأمنية” في المناطق الفلسطينية المحتلة. ووفقاً لبعض التقديرات أنفق الجيش الإسرائيلي منذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية حتى اليوم على معالجة الوضع الأمني في المناطق 48 مليار شيكل أي ما يعادل أقل من 16 مليار دولار، دفعها أبناء الطبقة الوسطى ضرائب. كل ذلك يزيد الاحساس بالغبن والتمييز لدى أبناء الطبقة الوسطى في إسرائيل.

مصير الحكومة

يوماً بعد يوم تأخذ الحركة الاحتجاجية المطلبية في إسرائيل بعداً اجتماعياً واسع النطاق وتشكل تحدياً حقيقياً لحكومة نتنياهو، لا سيما بعد انضمام الأطباء الى الحركة واعلان “الهستدروت” الذي يمثل اتحاد النقابات العمالية في إسرائيل ويشمل 600 ألف عامل احتمال انضمامه الى التحرك ومشاركته في الاضراب العام في الأول من آب. ويوماً بعد يوم تعلن جهات عمالية جديدة انضمامها الى الحركة الاحتجاجية، اضافة الى مشاركة شخصيات ثقافية وفنية وعامة في التحركات.

كل ذلك يعطي لما يجري في إسرائيل صورة “ثورة اجتماعية” لا بد من ان تكون لها انعكاساتها على الصعيد السياسي، آجلاً أم عاجلاً.

النهار، 2/8/2011

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات