الأحد 11/مايو/2025

يوم الأرض: بين الذاكرة الجماعية والهوية الوطنية

يوم الأرض: بين الذاكرة الجماعية والهوية الوطنية
توافق هذه الأيام الذكرى ألـ 35 لأحداث يوم الأرض وما يميز هذا العام تحديدا امتزاج ذكرى يوم الأرض بالجو العام الذي يسود المنطقة والتي من شأنها أن تشكل فيصلا هاما وتاريخيا لهذه المناسبة الوطنية التي لا يجب أن تغيب عن ذاكرة الشعب الفلسطيني فتوافق ذكرى يوم الأرض في ظل تحولات سياسية جوهرية وبداية نهاية الحكم الجبري الذي ملأ الأرض ظلماً وجوراً لمدة عقود كما وتتوافق هذه الذكرى في ظل تحرك شبابي ثائر على الغزو الفكري وعلى الأنظمة المغتصبة لمختلف الحريات السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية وتعود ذكرى يوم الأرض أيضا في عام قد ظهرت فيه بوادر الخير وغطت سماؤه غيوم الأمل.

تحدث الكثير من المؤرخين والباحثين عن تاريخ الصراع على فلسطين وتحدث الكثيرون عن مردودات وأثار هذا الصراع ولكن ما يجب الإشارة إليه في هذه الفترة الحساسة من عمر القضية الفلسطينية التي ما زالت تنزف منذ عقود طويلة إلى حالة “الارتداد الثوري” الحاصلة في المنطقة وتحديدا في العالم العربي وعلى سبيل المثال لا الحصر؛ ما حصل في تونس من تحولات بعد نجاح الثورة ونتيجة للضغوطات الشعبية التي أدت في نهاية المطاف إلى حل الحكومة الحالية وفرضت الحظر السياسي على النظام السابق وما رافقها من عملية استقالات جماعية وتشكيل حكومة وحدة وطنية جديدة وقد حدثت عملية مشابهة في مصر وتجري عملية مشابهة في هذه الأيام في ليبيا واليمن وسوريا والأردن وخرج المئات من الفلسطينيين للتعبير عن رغبتهم تحت شعار “الشعب يريد إنهاء الانقسام” وهناك محاولات جادة لإنهاء عملية الانقسام والاقتتال الداخلي بين الفصائل الفلسطينية المختلفة ولعل الحدث الأبرز الحديث عن زيارة مرتقبة لرئيس السلطة الفلسطينية إلى غزة.

الأمة الثائرة

حالة الارتداد الثوري الحاصلة في العالم العربي من شأنها أن تؤسس لما قد يحصل بعدها ويمكنها أن تفرز حالة سياسية جديدة تؤثر على مستقبل منطقة الشرق الأوسط وأبعد من ذلك فقد تؤثر على ميزان القوى في العالم بأسره هذه الحالة تنبع من عدة مركبات تتقاطع مع بعضها البعض ومن ضمنها المركبات الأخلاقية القيمية والوطنية وتتغذى هذه المركبات من الروح العقدية والدينية لهذه الشعوب وتتقاطع مع بعضها داخل منظومة “الأمة الثائرة” التي كسرت حاجز الخوف وخلعت عن نفسها ثياب العمالة والفساد وطرحت عن أكتافها خيوط الذل والمهانة وارتدت ثياب العزة والكرامة.

يشكل يوم الأرض مفصلا مركزيا ومحورا أساسيا في تطور الوعي الجماعي لدى الداخل الفلسطيني وبقي يوم الأرض يوما وطنيا يغذي ويحيي الذاكرة الجماعية الفلسطينية على جميع مركباتها منضما بذلك إلى أيام أخرى ليست اقل أهمية فيها من التشابه وفيها من الاختلاف مثل يوم النكبة عام 1948. ولا تنبع أهمية يوم الأرض كونه يوم تحد للسلطة فحسب وإنما لكونه يتمحور حول المركب الأكثر أهمية في الوجود الفلسطيني تاريخيا وإنسانيا وحضاريا ألا وهو العلاقة العضوية بين الشعوب والأرض.

“فالأرض لا تعني الوجود البيولوجي والمادي فقط ولا تقتصر على الجغرافيا والطوبوغرافيا فأهمية الأرض تتمحور في كونها حاملة للأبعاد الحضارية والثقافية والرمزية للتواجد الإنساني عبر جدلية الجد والابتداع البشري والرق المعرفي” (نبيه بشير. يوم الأرض: ما بين القومي والمدني ص 5).

يمثل يوم الأرض الغيرة على الوجود الإنساني والارتباط النفسي الشعوري والالتحام الاحساسي بالأرض علماً بأن اقتصاد الشعب الفلسطيني أرتكز بشكل أساسي على زراعة وفلاحة الأراضي وتعود العلاقة القوية بين الشعب الفلسطيني والأرض بعد أن سلبت نكبة الشعب الفلسطيني السياسة السيادية على الأرض ويبرز يوم الأرض الوعي الجماهيري لمخاطر السياسات الإسرائيلية الرامية إلى تقزيم الوجود العربي وتحويله إلى مجرد جزر إنسانية عربية محاطة ببحر من السكان اليهود الذين يتحكمون بكل مناحي الحياة العامة وبالتالي يحجبون نوعية الحراك العربي في الحياة الخاصة بجوانبها الإنسانية المختلفة.

وعي النكبة

فهناك علاقة قوية جدا بين الذاكرة الجماعية التاريخية للشعب الفلسطيني وللهوية الوطنية وهذه العلاقة ساهمت في التعبئة الجماهيرية للمخاطر المحيطة بالأراضي العربية المتبقية وهناك إشارة واضحة جدا بخلاف ما أشار إليه البعض بأن أحداث يوم الأرض كانت نتاجا لانفجار العواطف أو إحساس بغضب مؤقت وان كانت هذه المشاعر ضرورية لتغذية التحركات الشعبية والجماهيرية إلا أن أحداث يوم الأرض لم تكن عشوائية وفوضوية وقد كانت نتاجا لتراكم الوعي السياسي المعرفي والثقافي للمجتمع الفلسطيني في الداخل ولا سيما ارتباط الشعب الفلسطيني بتاريخه وتجربته المأساوية في النكبة.

نجحت أحداث يوم الأرض في تكثيف الجهود وربط جدلية الوعي الجماعي السياسي بالواقع من خلال مركبات الهوية الجماعية بالإضافة إلى بلورة الذاكرة الجماعية وربطها بالهوية الوطنية وتمثل ذلك في التحركات الشعبية والجماهيرية ودور بعض القيادات والأحزاب السياسية الفاعلة بغض النظر عن الأهداف المنشودة ودور بعض الجهات السياسية واستغلالهم الأحداث لتسييرها في مسار مصالحهم السياسية والحزبية.

لقد فرضت أحداث يوم الأرض حالة من عدم التوافق بين المركبات السياسية والحزبية التي نشطت خلال تلك الفترة التحركات الحزبية كانت نتيجة للضغوطات والتفاعلات الجماهيرية فهذه التحركات دفعت الهيئات المختلفة إلى تشكيل لجان شعبية تميزت بعملها الجماعي وضمت المركبات الحزبية والسياسية المختلفة وهنا كانت نقطة تحول هامة جدا في مفهوم العمل السياسي الشعبي الجماعي اللاحزبي واللابرلماني على مستوى الداخل الفلسطيني ولا يمكن إنكار دور بعض الهيئات الحزبية للالتفاف على دور اللجنة وهذا ما حدث بالفعل في سنوات التسعين مما أدى إلى حل اللجنة بعد رفض إجراء إصلاحات سياسية بداخلها.

غضب الجماهير

ما يميز يوم الأرض أنه هبة عربية جماهيرية فلسطينية مميزة للداخل الفلسطيني فقد ساقت الجماهير نفسها إلى مواجهة غير مسبوقة وغير متوقعة وبدون تخطيط مسبق مع قوات الأمن وحرس الحدود وعملت الهيئات المنظمة لاحتواء الأمر وترشيد الناس من خلال توجيه الجماهير الغاضبة إلى حوار سلمي وإضراب سلمي للتعبير عن الامتعاض والسخط باتجاه محاولات مصادرة الأراضي ولم يتوقع احد من الجهات المنظمة بان يتطور الأمر إلى ما هو ابعد من ذلك بكثير لذلك فاجأت أحداث يوم الأرض جميع الهيئات السياسية والحزبية المنظمة ولم تتوقع تحول الإضراب عن مساره لامتصاص غضب الجماهير وقد ساعد على اندلاع المواجهات التي راح ضحيتها ستة شهداء دخول قوات الأمن قرى البطوف واستفزازها للناس لذلك فرضت الجماهير حالة غير مسبوقة على الهيئات السياسية والحزبية المختلفة ودفعتها إلى كسر سقف التوقعات ورفع سقف المطالب بعكس ما كان متوقعا تماما.

حاولت المؤسسة الإسرائيلية احتواء الأمر من خلال التدخل لإلغاء الإضراب العام الذي أعلنته اللجنة القطرية للدفاع عن الأراضي العربية التي تأسست عام 1975 فقد دعا رئيس الحكومة “اسحاق رابين” عن طريق مستشاره للشؤون العربية “شموئيل طوليدانو” ووزير المخابرات “كاتس” رؤساء السلطات المحلية إلى اجتماع طارئ عقد في بلدية شفاعمرو بتاريخ 25.3.1976 لبحث فكرة إلغاء الإضراب مما حوّل الاجتماع إلى ساحة للصراع بعد تجمع المئات من الجماهير الغاضبة خارج البلدية للضغط بقوة على ضرورة الإصرار على تطبيق فكرة الإضراب العام والتمسك بقرارات اللجنة وانقسم الطرفان بين مؤيد للفكرة وبين معارض لها وتلبيةً لنداء الواجب الوطني والجماهيري تمسكت بعض القيادات السياسية بقرارات اللجنة.

لم تفلح المؤسسة الإسرائيلية في فرض أللعبة السياسية والأكذوبة المؤلمة وهي “فكرة تطوير الجليل” التي عبر عنها “بن غوريون” في ضرورة السيطرة والاستيلاء على الجليل وتبنى الفكرة مدير دائرة الاستيطان في الوكالة اليهودية “اشكول ليفي” وبرز ذلك من خلال خطاب “اوشسكين” أمام اللجنة التنفيذية الصهيونية عام 1937 والذي جاء فيه “علينا أن نبذل جهدا للاستيلاء على مواقع بعيدة عن مراكز الاستيطان لضمان أوسع الحدود لبلادنا” (الكتاب الأسود عن يوم الأرض ص 12). هذا وقد هيأ صدور ما يعرف ب “وثيقة كينغ” عام 1976 الظروف والأجواء لمزيد من الإجراءات العملية لتنفيذ نطاق واسع وشامل لمصادرة الأراضي العربية الفلسطينية في منطقة البطوف.

إجراءات اضطهادية

قدم اللواء “يسرائيل كينغ” وثيقة سرية لوزارة الداخلية كشف محتواها على ضرورة تهويد الجليل والاستيلاء على الأراضي العربية وزيادة عملية الاستيطان فيه وأشارت الوثيقة إلى ضرورة التخلص من خطر الوجود العربي وتقليص الفرص الاقتصادية والاجتماعية لمنع تحولات سياسية أمام الداخل الفلسطيني ومنع ظهور طبقة أكاديمية مثقفة يمكنها تشكيل نواة صلبة تؤثر سلبا على مستقبل المؤسسة الإسرائيلية وحرصت على ضرورة العمل وتشكيل حزب عربي يركز على السلام والمساواة بروح حزب العمل.

شكلت أحداث يوم الأرض ولادة حقبة تاريخية جديدة للداخل الفلسطيني فقد شعرت الجماهير بنوع من القوة بعد النجاح النسبي الذي تم تحقيقه نتيجة للأحداث حيث أثرت حالة العصيان المدني على متخذي القرار في المؤسسة الإسرائيلية وأجبرتها على وقف بعض الإجراءات في منطقة الجليل والبطوف ولو لفترة زمنية قصيرة هذا النجاح المحدود أدى إلى شعور بنوع من القوة والتحدي وزيادة الغليان الجماهيري مما أدى إلى ظهور حالة سياسية واجتماعية مغايرة تماما لما سبقها قبل أحداث يوم الأرض بعد كسر حاجز الخوف واستعادة الثقة بالعمل الجماعي السياسي والمؤسساتي وفقدان الثقة بالعمل السياسي البرلماني وبالأحزاب اليهودية فقد أفرزت أحداث يوم الأرض حالة سياسية جديدة تمثلت في نشوء قوى سياسية وطنية وقومية وإسلامية مختلفة ومن ثم أفرزت لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في أشارة أخرى إلى تطور الوعي السياسي للجماهير العربية في الداخل الفلسطيني.

المراجع:

• الكتاب الأسود عن يوم الأرض 30 آذار 1976 اللجنة القطرية للدفاع عن الأراضي العربية في فلسطين دار الجليل للنشر عمان 1985.

• خالد عوض. كي لا ننسى: 25 عاما على يوم الأرض إصدار مكتب النورس- الناصرة 2001.

• نبيه بشير. يوم الأرض ما بين القومي والمدني: سيرورة وتحول مدى الكرمل المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية 2006.

• زاهي كركبي. يوم الأرض: يوم النضال من أجل الأرض والبقاء نشرة بمناسبة الذكرى ال 21 ليوم الأرض الخالد إصدار معهد أميل توما للأبحاث الاجتماعية والسياسية حيفا 1997.

• مهند مصطفى. يوم ليس ككل الأيام: نشرة خاصة بذكرى ال 28 ليوم الأرض جمعية اقرأ 2009.

• وليد حسين. دراسة موجزة: حكاية يوم الأرض 1976 موقع الفجر الالكتروني 29.3.2010.

مركز الدراسات المعاصرة، 30/3/2011

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات