الأحد 04/مايو/2025

فلسطين والقدس والتاريخ

فلسطين والقدس والتاريخ
بداية لابد من كلمة صريحة عن الحاضر، قبل العودة إلى ماضي فلسطين القديم ملخصها: أننا على قناعة بأن مدينة القدس، ناهيك عن فلسطين، لا تحتل أي حيز في قلوب معظم الحكام العرب والمسلمين وعقولهم. فقد تخلوا عنها على نحو نهائي. التطورات في المنطقة منذ سقوطها للاستعمارين البريطاني والفرنسي تثبت ذلك على نحو لا يقبل الشك. قادة العرب والمسلمين، أداروا ظهورهم لفلسطين وللقدس ولا يكترثون بهما، حتى لفظيًّا.

الآن، لقد شكل احتلال فلسطين خلال الحرب العالمية الأولى منطلقًا جديدًا للإمبرياليات الأوروبية كي تقوم بتزوير تاريخ القدس وفلسطين القديم لصالح خطاب خلاصي (إنجيلي) يعتمد الأساطير والخرافات، وإن حاولوا صوغه بمقولات ومصطلحات شبه علمية.

لكن المشكلة الكبرى تكمن في حقيقة أن الخطاب العربي والإسلامي عن تاريخ المدينة القديم لا يزال أسير مفردات ذلك الخطاب الخلاصي (الصهيوني) ومصطلحاته، بدلاً من أن يعتمد على مرجعية تاريخية متوافرة في الكتب والدوريات المتخصصة، وثمة علماء عرب وغير عرب عديدون قديرون يمكنهم المشاركة في النقاش من منطلق علمي رزين.

فمن المفردات والمصطلحات الإنجيلية الصهيونية التي يحفل بها الخطاب العربي والإسلامي، على سبيل المثال: “هيكل سليمان”، “الهيكل الثاني”، “يبوس”، إضافة إلى تسمية المواقع الفلسطينية بأسماء توراتية أطلقها عليها علماء الآثار البريطانيون ومن بعدهم أثريو كيان العدو.

ويبقى المصطلح “اليهود” هو المصطلح (الخلاصي) الأكثر استعمالاً، بينما يجب تمييز مختلف الطوائف “اليهودية” من بعضها، ولا ننسى هنا بالطبع ضرورة تمييز “بني إسرائيل” من “يهود”، وهو تمييز واضح في القرآن الكريم الذي يجب أن يشكل مرجعية الخطاب العربي والإسلامي عن المادة.

إذا ما عدنا إلى المراجع التاريخية اليونانية واللاتينية عن فلسطين في القرون العشرة التي سبقت الفتح العربي الإسلامي، فإننا سنعثر فيها على معلومات مهمة للغاية تنقض “بدهيات” الخطاب الخلاصي “الإنجيلي-الصهيوني” الذي يتحدث عن سبي اليهود وما إلى ذلك من قصص التوراة. وبالمناسبة، فإن التوراة لا تتحدث أبدًا عن “سبي اليهود” وإنما عن سبي سكان مملكة يهوذا، والفرق بينهما، لو تعلمون، كبير.

فعلى سبيل المثال، أقدم مرجع تاريخي متوافر عن “بلاد الشام” هو كتاب المؤرخ الإغريقي هِرُدُتْ “مكتبة التاريخ” المخصص على نحو خاص للحروب الإغريقية الفارسية. ولكن “أبو التاريخ” هذا كتب عن أمور كثيرة أخرى رآها أو سمع عنها خلال ترحاله في القرن الخامس قبل الميلاد من بلاد الإغريق إلى مصر، ومنها إلى بابل.

فعلى سبيل المثال هِرُدُتْ الذي عاش وكتب في القرن الخامس قبل التأريخ المسيحي، لم يسمع عن “أورشليم” أو يهوذا، بل على العكس من ذلك فقد تحدث بصريح الكلمة عن “سوريو فلسطين”، وأوحى بأن فلسطين –هكذا حرفيًّا- تمتد من دمشق إلى صحراء سيناء، بينما يحدد الخطاب الخلاصي حدودها ضمن “قطاع غزة” الحالي تقريبًا.

هِرُدُتْ لم يشر لا من قريب ولا من بعيد إلى “إسرائيل” أو “يهوذا” أو “السامرة” أو “السبي” أو “أورشليم” أو “الهيكل”. ولو كان سمع بذلك لكتب عن الموضوع حتى بكلمات مقتضبة، ذلك أنه تحدث عن مواقع وأقوام بعيدة، ومنها جنوبي جزيرة العرب ومنتجاتها الطبيعية، التي كما نعرف تبعد عن طريق مسيرته آلاف الأكيال.

نحن لسنا في صدد الحديث عن جغرافية “الحدث التوراتي” وإنما تأكيد أمور بدهية وجب أن يعرفها القارئ غير المتخصص. أليس من الأمور المذهلة حقًّا أن يتحدث “أبو التاريخ” عن جغرافية فلسطين بهذه الكلمات، وأن يتجاهل الخطاب الخلاصي، الإنجيلي الصهيوني، هذه الحقيقة. أليس من المذهل حقًّا أن أبا التاريخ لم يسمع بالسبي ولا بأورشليم ولا بيهوذا.. !!، وهي أحداث من المفترض أنها وقعت في مدة قصيرة قُبَيل عهده. فلو كانت قائمة وقتها، حتى في الذاكرة العامة، لكتب عنها. هذه حقائق أساس لأنها تمدنا بمعلومة مهمة عن تاريخ المنطقة وأقوامها.

لكن هِرُدُتْ لم يكن الوحيد الذي كتب عن المنطقة في تلك المرحلة، إغريقيًّا كان أو “لاتينيًّا”، وإن كان الأقدم. كل من كتب عن الإقليم في تلك المرحلة استخدموا المصطلح نفسه، أي: فلسطين. أرسطو وباليمو الإليومي وكاسيُس ديو العضو في مجلس شيوخ بالإمبراطورية الرومانية الذي رفض صراحة اسم “يهوذا” الرسمي، ويوليوس أفريقانوس وبطليموس وفيلو السكندري، جميعهم أطلقوا على الإقليم اسم فلسطين.

والأمر ذاته فعله آباء الكنيسة ومنهم أسقف مدينة قيسارية يوزبيُس وأُرِغِنِس على سبيل المثال لا الحصر، مناقضين بذلك الوصف التوراتي لحدود “فلسطيا” التي من اسمها اشتق الاسم المعرب “فلسطين”.

مسألة أخرى جديرة بالالتفات إليها هنا، وإن على نحو سريع وهي ما يسمى “الهيكل”. أولاً، قصة بناء هذا المعبد تردنا من كتب التاريخ والجغرافية الإغريقية واللاتينية التي تقول إن الوالي المحلي الذي عينه الرومان الذين احتلوا فلسطين في القرن الأول قبل التأريخ المسيحي حاكمًا على “ولاية” -وكان اسمه “هِرودس”، وهذه صيغة مؤغرقة للاسم الآرامي “حرد”، وكان عربيًّا من الأنباط وكان متزوجًا من ابنة أحد ملوكهم- بنى معبدًا، وهو المسمى “هيكلاً”، في مدينة القدس لإرضاء كهنة البلاد المسيطرين على مختلف الطوائف “الموحِّدة”، ومنها طوائف الصدوقيين والفريسيين والكتبة والسيكاريين وجماعة الفلسفة الرابعة والمندائيين.. إلخ المذكورين في أناجيل “العهد الجديد”.

في الوقت نفسه بنى حرد العربي قصرًا لنفسه وقلعة أعلى من ذلك “الهيكل” وتشرف عليه. ومن الأمور المعروفة أن الحكام، قديمًا وحاضرًا، يقيمون أفخم المباني “الدينية” تقربًا من العامة المؤمنة فطريًّا وللتغطية على فسادهم وجورهم وظلمهم.. إلخ.

وعندما تمردت بعض الطوائف في مدينة القدس قام الرومان بهدم معبد حرد، الذي يطلق عليه الخطاب الخلاصي اسم “الهيكل الثاني” تمامًا، وصكوا عملة بالمناسبة تظهر على أحد وجهيها ثيرانًا تحرث الأرض التي أقيم عليها.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات