الأحد 07/يوليو/2024

أحلام التميمي ومنى منصور.. همة تستمطر الدمع

أحلام التميمي ومنى منصور.. همة تستمطر الدمع

تمر علينا هذه الأيام الذكرى الثامنة لاستشهاد القائد جمال منصور “أبو بكر” في الوقت الذي لا تزال فيه الساحة الفلسطينية تعاني حالة الانقسام السياسي والجغرافي، وفي ظل هجمةٍ أمنيةٍ طالت كل شيء من الاستدعاءات والاعتقالات والتحقيق والتعذيب الشديد الذي وصل حدَّ الموت، إلى مصادرة سلاح المجاهدين وأموالهم والسيطرة على مؤسَّسات المجتمع المدني، بالإضافة إلى سياسة تكميم الأفواه ومصادرة حق التعبير عن الرأي؛ الأمر الذي لا يوفر مناخات ولا يساعد على تهيئةٍ لمصالحةٍ وطنيةٍ.

ففي الحادي والثلاثين من تموز (يوليو) 2001 كانت فلسطين مع قدرها؛ حيث هوت مئذنتان من مآذن الوطن السامقة والشامخة.

كان جمال منصور وتوأمه القيادي جمال سليم “أبو مجاهد” وثلة من المجاهدين المرافقين والصحفيين في موعدٍ مع الشهادة؛ حيث ارتقت أرواحهم الطاهرة إلى بارئها في عليِّين؛ حيث الأنبياء والصديقون والشهداء وحسن أولئك رفيقًا بعد أن صبَّت عليهم طائرات الأباتشي “الإسرائيلية” نيران حقدها وحمم ساديتها، وستظل دماء هؤلاء القادة، وعلى رأسهم أبو بكر ثائرة هادرة تروي قصة فداءٍ وتضحياتٍ، بل ملحمة عطاءات خلال مسيرة جهاد ونضال شعبنا لنيل استقلاله وحريته، مسيرة مخضبة بالدماء الزكية الفائحة بطيب الشهادة وعبقها.

اليوم تمر الذكرى المؤلمة والمحزنة لفراق الأحبة وفقدانهم وأم بكر تستذكر ألم الذكرى السابعة ومعاناتها عندما جاءت وهي ترسف في القيود وتربض خلف القضبان في ظروفٍ كانت غاية في الصعوبة، خاصة أنها تزامنت مع تجربتها الأولى في الأسْر والسجن وظلماته ومعاناته.

وقد كنت يومها على ثقةٍ ويقينٍ أن المجاهدة الكبيرة أحلام التميمي “أم العز” ومن معها من المجاهدات وماجدات شعبنا وبخبرتها الاعتقالية وحسها المسؤول ستتمكن من تبريد المشاعر وتلطيف العواطف، وقد كانت مواقف أم العز وكلماتها بحرًا من الماء صبَّتها على تلك النار المشتعلة والروح المتوقدة والمشاعر الجياشة والعواطف الملتهبة التي كانت تشتعل في قلب أم بكر وصدرها وأحشائها، وهي التي عاشت الذكرى السابعة لاستشهاد زوجها خلف القضبان وبعيدًا عن الأمانة التي تركها لها أبو بكر؛ حيث اختطف الاحتلال منى منصور وسط أجواء الرعب والهلع وتحت تهديد السلاح، وتركت خلفها فلذة كبدها وصغيرها بدر الذي لا يزال يعاني المرض، بينما فقدت كريمتها بيان التي حصلت على معدل 89% في الثانوية العامة الشعور بالفرحة، أما ابتهال الطالبة في قسم الصحافة في جامعة النجاح الوطنية فقد ازداد عليها العبء وعملت جاهدة للتوفيق بين دراستها وعدم انسحابها من الفصل الدراسي وبين قيامها بدور الأب والأم في البيت في الوقت الذي كان بكر وشقيقه أمان يعيشان تحت تأثير اختطاف الوالدة.

لقد كان لأم العز دورٌ في التخفيف عن أم بكر وهي تعيش تجربتها الأولى في الأسْر بعيدًا عن بدر الذي كان في أمسِّ الحاجة الدائمة والمستمرَّة إلى رعاية والدته ويدها التي تخفف من أوجاعه وآلامه وهي التي طافت به الكثير من العيادات والمشافي سعيًا والتماسًا لعلاجه.

لقد عاشت أحلام مع أم بكر هذه المناسبة بقلبها وجوانحها وعواطفها، وتكلمت معها بعروق دمها وشرايينها وحشاياها، تحدثت عن الألم وهي التي تعلم أن منى منصور أولى المتألمات، وهي التي تتوجع لما حدث وهي التي لم يُسمع منها كملة تأوُّهٍ أو ضجرٍ؛ لأنها لا تتوجع على فقدان بكر بلسانها بل بجنانها.

لقد كان المشهد يا أحلام ماثلاً أمامك في خلجات صورتها وقسمات وجهها ونبرات صوتها ولفتاتها وإشادتها، وهي التي تتحدث طويلاً وتفاجئ من حولها وهي تتحدث عن البشرى من خلال آيات عطرة من القرآن الكريم ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ (السجدة: 24).

﴿وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ (157)﴾ (البقرة).

وتختم منى منصور حديثها بالاستعانة بالصبر والصلاة على نوائب الدنيا، وأن الصبر على البلاء بضاعة الصديقين، وهو كنز من كنوز الجنَّة، وأن الصبر والنصر أخوان شقيقان، وحقًّا إنما يُوفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب، وهذا في حدِّ ذاته كالماء المنهمر، أو كما يقولون بلغة التجارة العصرية “شيك مفتوح”.

إنني على يقينٍ أن أحلام كانت أمام مدرسةٍ في الصبر والاحتساب والاحتمال، وهي نفس مدرسة الأخت المجاهدة عضو المجلس التشريعي الفلسطيني مريم فرحات “أم نضال” خنساء فلسطين التي أزعجتنا يومها أخبارُ مرضها وما ألمَّ بها من تدهورٍ في حالتها الصحية؛ حيث أدخلت أحد المستشفيات المصرية، نسأل الله لها الشفاء العاجل، وهذه هي مدرسة الخنساء التي تتلمذت فيها أم بكر، هذه المرأة العظيمة التي لديها من طاقات التحمُّل والامتحان ما يعجز عنه إلا أمثالها وأمثال أختنا الكبيرة المجاهدة أم نضال.

هذه هي أم بكر يا أحلام، لقد عرفتها يجلجل صوتها تحت قبة المجلس التشريعي وفي المجامع العامة من محاضراتٍ وندواتٍ بغيرةٍ وكلمة الحق ولهجة الصدق، وهي من خير من حمل هموم الشعب الفلسطيني وآلامه الذي تطحنه ممارسات الاحتلال، وهي التي تحمل آمال وتطلعات شعبها؛ تعرض أفكارها ورسالة الحق عرضًا قويًّا ومؤثرًا يلتمس فيه العاطفة والجاذبية والأنفاس الحارة والصادقة.. عرفتها بشعار الحق الذي ترفعه؛ حيث يصل صوتها إلى سويداء القلوب وأعماق الأعماق؛ لأن الفكرة عندها واضحة والطريق إلى الهدف قد رسمت معالمه، وهي التي تجيد صفاء العرض، والوصول إلى الهدف.

إن منى يا أم العز -وعلى الدوام- لها الحضور في مساندة العائلات المنكوبة من الأسرى وغيرهم، وهي التي تحمَّلت في غياب الزوج المسؤولية مضاعفة كأمٍّ وأبٍ وداعيةٍ بالإضافة إلى مسؤولياتها التشريعية؛ لذلك هي مؤهلة وبدرجة عالية لأداء واجب النصح والمواساة وتقديم المساعدة والوقوف بجانب المحتاجين وتجسيد قيم العدالة والمهنية والشفافية والكفاءة؛ فإن لديها من سرعة البديهة ورصيد التجارب المختلفة ما يسعفها في كافة المواقع والتعاطي مع الأحداث، ولها من روعة الهمم ما يدعوها إلى معالي الأمور؛ فمطلبها سامٍ وهدفها نبيل، وهذا ما كان عليه أبو بكر قبل استشهاده؛ لديه من الحنكة السياسية والقدرات القيادية و”الكاريزما” ما جعل منه قائدًا وطنيًّا ورمزًا بامتياز.

إن الدموع التي أرسلتها أم بكر وهي تنتزع من بين أفراخها، وخاصة بدر، لا تختلف عن دموع أحلام التي أرسلتها بالأمس القريب عندما رأت الشيخ حامد “أبو حاتم” مكبلاً بيديه ورجليه ويلبس لباس السجن “الشاياص”، كانت يومها دموع أحلام تبعث في القلوب الألم والحسرة على الحال الذي وصلت إليه الساحة الفلسطينية، وعلى تلك الدماء التي سالت في غير موضعها ومكانها.

لقد أبكتني يومها أحلام كما أبكت بعض من كان معي وهي تستذكر المسجد الأقصى الذي قدم جمال منصور دمه جزءًا من مهر تحريره، وبعد أن غيَّب الاحتلال الكثيرين من فرسانه ورجالاته خلف القضبان.

أبو حاتم أحد خطباء المسجد الأقصى وفرسانه يرسف في القيود على مدخل سجن الجلمة (كيشون).

واليوم تبكي أحلام وتبكي أم بكر كما يبكي الشرفاء ويتوجَّعون من أعماق قلوبهم، وتنساب عبارات الفجيعة وكلمات الألم من بين شفاههم، وتتساقط الدمعات مع الآهات والعبرات مع الزفرات بعد أن أصبحت الدعوات إلى الحوار والوحدة الوطنية مجرد شعارات بلا مضمون؛ ترفع في المناسبات وفي توقيتات باتت معروفة لتوظيفها في خدمة أمور شخصية وحزبية تنظيمية وفصائلية فئوية.

أحلام التميمي “أم العز” التي أمضت أكثر من سبع سنوات ترسف في القيود ولا تيأس؛ حيث لا يأس عندها مع الإيمان؛ لذلك نراها في هدوء الجبل الصامت، وفي رزانة الدهر الساكن، وفي ثبات القلعة الرابضة، وهي التي أصدرت المحكمة العسكرية “الإسرائيلية” بحقها حكمًا جائرًا ستة عشر مؤبدًا وعشرين سنة إضافية.

أحلام ومع استعلائها على تفاهات الدنيا تصعد إلى أوج الفضائل وهي تدرك أن جلجلة الحق أكبر من زيف الباطل، بهذه النفسية وبهذه الهمة العالية استقبلت قبل عام منى منصور “أم بكر” عضو المجلس التشريعي الفلسطيني عن محافظة نابلس “جبل النار” والداعية الإسلامية والمجاهدة الكبيرة وزوجة الشهيد المجاهد جمال منصور، ولكن في سجن “تلموند” للنساء في مجمع “هشارون”، وكان في الاستقبال أيضًا ماجدات الشعب الفلسطيني في السجن.

فلله دَرُّك يا أحلام على عظيم صبركِ.. لقد اضطلعت بالأمانة بحزم وعزم ووفاء، ولله درك يا زوجة الشهيد جمال منصور وأنتِ المعروفة على مستوى الوطن بجرأتك الصادقة وإقدامك المشهود، لا تعرفين النكوص ولا الالتواء؛ تواجهين الأحداث والوقائع وممارسات السلطة بحق المجاهدين من غير تهيُّبٍ ولا خوفٍ ولا وجلٍ، وأنتِ التي عُرف عنك في لقاءاتك وندواتك بقطع حبال الشك بمهنَّد الحجة الصارم، وتتعاملين مع المواقف والأحداث والمقامات بحكمة وفطنة المجرِّب الذي عركته الحياة، وأنتِ حقًّا قد عركتك الحياة؛ فقد اضطلعت لسنوات زادت عن ثمانٍ في غياب القائد جمال منصور “أبو بكر” خلف القضبان تربضين بعزة وشموخ رغم ألم القيد وقسوة السجن.

هذه هي أم بكر، وهذه هي أم العز.. مجاهدتان من مجاهدات الشعب الفلسطيني العظيم بعطاءاته والكبير بتضحياته.. منى وأحلام رائدتان من رواد هذا الشعب الذي يقدم ويضحِّي بالغالي والنفيس من أجل حرية الشعب والوطن وكرامته وعزته، وأم العز التي لها من كنيتها نصيب عزيزة بانتمائها إلى هذا الوطن وإلى هذا الشعب وإلى حركتها التي وجدت فيها ما يُبلغها مرامها.

لقد كان لقاء أم بكر بأم العز خلف القضبان بمثابة فرصة؛ حيث وقفت كل مجاهدة على تجربة الأخرى، كما أن اللقاء في ظل الدعوة والحب في الله قد أعطاه أبعادًا كثيرة؛ فالبعدان الروحي والإنساني كان لهما الأثر الكبير في كلٍّ منهما؛ حيث النتيجة بإذن الله هي الفوز بإحدى المراتب السبعة التي يظل الله حائزيها بظله يوم لا ظل إلا ظله.

لقد خفف اللقاء الكثير من آلام السجن ووطأته وقسوته وشدته للبُعد الإيماني الذي من وجده وجد كل شيء، ومن فقده فقد كل شيء فهو وعلى الدوام حاضر في مسيرة عطاء كلٍّ من منى منصور وأحلام التميمي، وكل واحدة منهن تحمَّلت المشاق وتجشمت المكاره بالصبر، وصبر كل واحدة منهن هو الصبر الجميل الذي لا شكوى فيه ولا منة.

وأمام هذه اللوحات من العطاء والصبر، وفي الذكرى الثامنة لاستشهاد القائد جمال منصور “أبو بكر” تتجلى همة منى وهمة أحلام.. إنها همة رائدة وحقًّا تستمطر الدمع.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

الجيش الإسرائيلي يواصل احتلال معابر غزة

الجيش الإسرائيلي يواصل احتلال معابر غزة

غزة – المركز الفلسطيني للإعلام تواصل القوات الإسرائيلية، يوم الأحد، احتلال معابر غزة وإغلاقها، ومنع سفر الجرحى والمرضى للعلاج أو إدخال أي مساعدات...

حملة دهمٍ واعتقالاتٍ في الضفة الغربية

حملة دهمٍ واعتقالاتٍ في الضفة الغربية

رام الله – المركز الفلسطيني للإعلام شن جيش الاحتلال الاسرائيلي فجر اليوم الأحد اعتقالات، ومداهمات في مناطق مختلفة بالضفة الغربية تركزت في رام الله ....