النكسة نهاية مرحلة وبداية أخرى

صحيفة الخليج الإماراتية
كان من تداعيات نكبة 1948 حرص الدول العربية المحيطة ب”إسرائيل” على عدم الانجرار لصدام معها غير محسوبة عواقبه. وعليه تصدت أجهزة أمنها لكل نشاط شعبي مسلح، بما في ذلك المنظمات الفلسطينية التي برزت مطلع ستينيات القرن الماضي. غير أن نكسة 1967 دفعت الأنظمة للانفتاح على العمل الفدائي لحين استعادة جيوشها قوة الردع. وهذا ما يدل عليه قول الرئيس عبدالناصر “العمل الفدائي أنبل ظاهرة في ليل الهزيمة”. ومنذ معركة الكرامة ربيع 1968 استقطبت المنظمات آلاف الشباب العرب، الذين وجدوا فيها تعويضاً لانحسار الحركة القومية العربية والتنظيمات اليسارية الأخرى. وبانتقال فصائل المقاومة للجنوب اللبناني سنة 1971 شكلت قواعدها مدارس كوادر المقاومة اللبنانية الناشئة، التي تسارع تطورها بالالتحام المباشر بقوات الغزو الصهيونية لتبلغ ذروة انجازها بتحرير الجنوب عام 2000، ثم بإسقاط قوة الردع الصهيوني صيف 2006. وذلك ما تأكد بفشل المحرقة في النيل من صمود ومقاومة قطاع غزة مطلع العام الحالي.
ولم تكن النكبة قد أفقدت الشعب العربي الفلسطيني 78% من ترابه الوطني فقط، وإنما تسببت أيضاً في إفقاده وحدة نسيجه المجتمعي بتوزعه بين الصامدين في الأرض المحتلة، والباقين في الضفة الغربية وقطاع غزة، والموزعين في الشتات العربي والدولي. فضلاً عن افتقاره للمنظمات السياسية الوطنية، بحيث انتسب نشطاؤه للأحزاب والتنظيمات العربية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. ولكن شعب فلسطين بإصراره على التحرير والعودة شكّل العقبة الكأداء أمام مبادرات الصلح المتوالية، وأفشل كل مشروعات التوطين، إلا أنه لم يقم المؤسسة الكيانية المعبرة عن إرادته في تحقيق ثوابته الوطنية حتى أقيمت منظمة التحرير الفلسطينية بمبادرة من القمة العربية ربيع 1965.
غير أن انطلاق العمل الفدائي حرر الشعب العربي الفلسطيني من مشاعر اليأس والإحباط الغالبة عليه، وعزز لديه ثقته بحاضره ومستقبله، وأعاد إليه اعتباره كصاحب قضية وطنية يناضل في سبيلها. ثم إن احتلال كامل فلسطين أنهى الفرقة بين مواطني الضفة والقطاع وبينهم وبين أشقائهم في الأرض المحتلة سنة 1948، كما توالت التفاعلات والاتصالات مع الشتات الفلسطيني. وبعد أن كانت عودة اللاجئين بموجب القرار 194 وحدها المطروحة على المجتمع الدولي غدت بعضاً من المطالب الوطنية الشاملة تحرير الأرض المحتلة سنة 1967 من دون التفريط بما سبق احتلاله سنة 1948. وعليه يبدو جلياً أن الشعب العربي الفلسطيني بدأ بعد النكسة يخطو بتقدم نحو مرحلة جديدة في واقعه باتجاه الحراك المتنامي ليغدو الرقم الصعب في الصراع الذي فرض على أمته العربية بإقامة مشروع الاستعمار الاستيطاني العنصري على ترابها القومي في فلسطين.
ولقد كان من عوامل ضعف بنى المجتمعات العربية، التي يسرت انتصار التحالف الأمريكي – الصهيوني سنة 1967، احتدام صراعات القوى السياسية على الصعيدين القطري والقومي، وافتقادها إرادة التلاقي في جبهات تؤلف بين قواها وتجمع الإمكانات والقدرات الوطنية المتاحة في تقديم الاستجابة الفاعلة في مواجهة التحدي الذي كان يواجه الجميع. ولقد وصل الأمر ببعضهم حد الصلاة لله شكراً على هزيمة عبدالناصر، فيما رقص آخرون في السجون وقد ظنوا أنه انفسح المجال لهم لدور قيادي كانوا يفتقدونه. غير أن الزلزال الذي أصاب الحركة القومية، وتداعياته في أعقاب رحيل عبدالناصر، استنهضا إرادة الممانعة التي تختزنها الأمة عند نخبة من القوميين التقوا على إقامة “مركز دراسات الوحدة العربية”، واتخذوا منه منبراً لمراجعة الفكر والعمل القومي، وحوار رموز التيارات الإسلامية والليبرالية والماركسية، بحيث توصلوا مع بعضها لإقامة “المؤتمر القومي العربي” ثم “المؤتمر القومي الإسلامي” و”مؤتمر الأحزاب العربية”، الملتزمة ثلاثتها بالأهداف القومية الستة: الوحدة، والتحرر الوطني والقومي، والديمقراطية، والتنمية المستدامة، والعدالة الاجتماعية، والتجدد الحضاري. ولقد غدا ملحوظاً في غالبية الندوات الفكرية في مشرق الوطن العربي ومغربه التقاء مفكرين ونشطاء من التيارات الأربعة في حوار ديمقراطي وجدل موضوعي، بحيث تميزت مرحلة ما بعد النكسة في الحراك السياسي العربي عما كانت عليه الحال في مرحلة التشرذم والتناحر السابقة لها.
ولا شك في أن “إسرائيل” حققت انتصاراً مبهراً في “حرب الأيام الستة” توجت به مرحلة الانتصارات المتوالية منذ حرب 1948-1949، التي حققها التجمع الاستيطاني الصهيوني بقيادة تجمع اليسار الصهيوني بزعامة حزب العمل، وبرنامجه الاقتصادي الاجتماعي غير الرأسمالي، فضلاً عن الدعم الأمريكي والأوروبي الغربي مادياً ومعنوياً. غير أن خسارة “إسرائيل” حرب الاستنزاف، التي باشرتها مصر بمعركة “راس العش” بعد النكسة بأيام، سجلت بداية مرحلة الفشل الصهيوني المتوالي في العدوان على الجوار العربي، الذي بلغ غايته بالعجز عن التأثير في إرادة مواطني قطاع غزة برغم المحرقة. ولقد واكب انحسار قوة الردع، وسقوط أساطير التفوق الصهيونية المدعى بها، تراجع طردي في الدور القيادي لحزب العمل وبقية أحزاب اليسار والقوى العلمانية الصهيونية، مقابل تنامي دور وفعالية حزب الليكود وبقية أحزاب اليمين والجماعات التلمودية.
إلا أن النكسة التي بدت وكأنها حسمت الصراع لصالح التحالف الامبريالي – الصهيوني، فإنها بالتحولات الجذرية التي أعقبتها على الصعيدين العربي والصهيوني، لم تجاوز كونها معركة على درب الصراع التاريخي الممتد بين الأمة العربية والتحالف الإمبريالي الصهيوني، صراع لا يحسم إلا بالنصر الحاسم والنهائي لأحد طرفيه. وحين يغدو في مقدمة اهتمامات الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي ضمان أمن “إسرائيل” ففي ذلك مؤشر على تميز المرحلة التي بدأت بعد النكسة، بكون الزمن لم يعد يعمل لصالح المشروع الصهيوني كما كانت عليه الحال في المرحلة السابقة.
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

الاحتلال يعترف بمقتل جنديين في اشتباكات رفح ويكشف تفاصيل
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام نشرت إذاعة جيش الاحتلال الإسرائيلي، صباح اليوم الجمعة، تفاصيل ثقيلة لخسائر صفوف جنوده خلال اشتباكات وقعت يوم أمس في...

اعتقال 4 فلسطينيين من الخليل
الخليل – المركز الفلسطيني للإعلام اعتقلت قوات الاحتلال الإسرائيلي، فجر اليوم الجمعة، 4 فلسطينيين خلال اقتحامات متفرقة في مدينة الخليل جنوبي الضفة...

صدمات نفسية تحول دون التحاق الاحتياط بجيش الاحتلال
القدس المحتلة – المركز الفلسطيني للإعلام كشفت دراسة إسرائيلية، أن نحو 12 بالمئة من جنود الاحتياط بالجيش الإسرائيلي، الذين شاركوا بحرب الإبادة في...

الحوثي: أولويتنا إسناد غزة والعدو فشل باستهداف قدراتنا
صنعاء – المركز الفلسطيني للإعلام أكد قائد جماعة "أنصار الله" اليمنية عبد الملك الحوثي، يوم الخميس، أن أمريكا و"إسرائيل" فشلتا في مواجهة القدرات...

حماس تهنّئ البابا ليو الرابع عشر لانتخابه رئيسًا للكنيسة الكاثوليكية
المركز الفلسطيني للإعلام تقدّمت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بأصدق التهاني والتبريكات إلى البابا ليو الرابع عشر، بمناسبة انتخابه رئيسًا للكنيسة...

الحصاد المر لـ 580 يومًا من الإبادة الجماعية في غزة
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام نشر المكتب الإعلامي الحكومي ينشر تحديثاً لأهم إحصائيات حرب الإبادة الجماعية...

رامي عبده: خطة المساعدات الأميركية الإسرائيلية أداة قهر تمهد لاقتلاع السكان من أرضهم
المركز الفلسطيني للإعلام قال رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، رامي عبده، إن الخطة الأميركية‑الإسرائيلية التي تقضي بإسناد توزيع مساعدات محدودة...