شعب النكبات والانتفاضات

صحيفة القدس العربي اللندنية
هي لم تكن نكبة أولى ولا مجزرة واحدة.. هي لم تكن حرباً أخيرة، آلاف آلاف من النكبات والحروب والويلات والمجازر ونحن نواصل هذا الموت وهذا الرحيل، ومن جيل إلى جيل، نقلب الذكريات من قريب ومن بعيد، في حيرة مضنية ومعذبة، وكأن ما يجري في حاضر الحاضر ليس إلا مستقبل الماضي، وكأن الزمن يسير بنا ودائماً إلى الوراء!!!
ـ ألف ـ
سلامنا أيها الشعب الطافح بذكريات الألم المتواصلة والمرفوعة إلى ما فوق الأسى وبعد التعب ومن غير انقطاع. محاصر في ليلك الدامس الطويل، في لجة من دخان الحرائق وزبد البحر.. مشظى على يابسة، داخل خيام، هي من جلدك وعرق أيامك الموغلة في النكبات المتلاحقة.. ملقى خارج خيام لا ترى أمامها غير ظلال بيوت، التهمتها الحرب الأخيرة. سلامنا أيها الشعب القوي البهي، المشبع بالذكريات المتطايرة من جروحاتها التي لا تندمل ومن نزوفات الروح السائبة والممنوعة من التوقف أو الاستراحة على أنقاض الذاكرة.
تخنقك اللوعة والحسرة لامتناعك عن البكاء الذي إذا ما تفجر في ساحاتك التي تغلي وتفور، سيدميك الغضب.
سلامنا إليك، أيها المغرق في الظلام ووحشة العتمة إلى حد التلاشي.. أيها الحي والباقي، بين الأنقاض، وحشائش النسيان، أيها النازل على درجات الدم، وصولاً إلى عتبات الهاوية، من الذي ينتظرك هناك، غير أشلاء صورتك الرابضة على حدود أيامك العاثرة!!!.
لا تنتظر أيها الشعب المكلل بالصلوات والندى، أيها المبعثر على أرضك، لا تنتظر أكثر مما فيك، ولا أقل من ورودك الحائرة، من ازدياد الشهداء ومن قلة الأعراس. في أي سديم تنام، وكيف تكتب أسطورتك التي ينعدم فيها الخيال، من شدة الواقع وقسوته عليك، هل تكتبها بالشمع أم بالدمع؟ كيف تشعل الحروف بين الحجارة والجثث، وبأي وجع تضيء قلبك المهجور، ماذا تكتب في آخر الليل، وقبل أن ينطفئ عليك الليل؟، هل تكتب، عن الفروقات الشحيحة، بين الجروح والقروح، هل تكتب، عن خسارة الجسد، أم عن ضياع الروح، وهل يجرحك سؤالك إلى متى؟ وهل المتى تقربك من حياة لا تعرفها، أم تبعدك عن حياة، تقرفها وتشمئز منها، أتشردك عن ماضيك لتقتلك، أم أنها تنفيك، على حاضر ليصرعك، وماذا في وسع الخيال أن يفعل لك، بعد أن هوى الواقع بأهواله، وبكل أمراضه عليك؟
يا الشعب المدمى بجروحات القلب، من نكبتك الأولى والتي لم تندمل بعد، سلام، يا المقيد بنزوفات الروح المتعددة النكبات، المتكررة والممنوعة من التوقف، أو من الاستراحة، على رمال الذاكرة.
سلامنا إليك، أيها الشعب المغرق في الظلام ووحشة العتمة، إلى حد التلاشي.. أيها الحي والباقي، بين الأنقاض وفوق الرماد المشتعل، أيها النازل على درجات الدم، وصولاً إلى عتبات الهاوية.. من الذي ينتظرك هناك غير صورتك في البعيد، والرابضة على حدود أيامك العاثرة!. لا تنتظر أيها الشعب، المكلل بالشهداء والندى، أكثر مما فيك ولا أقل من ورودك الحائرة، من كثرة الضحايا، ومن قلة الأعراس.
نحن هنا نرتب لك أحوال الوجود، ونسعى بأقصى مما لدينا، من حزن وغضب، لنشق لك الممرات، عبر فواصل الحدود بدل المعابر، ولكي نستوعب ما يطفح منك من بكاء وخسارات، نحاول أن نسترد لك جميع الأطفال الذين احترقوا وتناثروا، على التراب وفي الغبار وفوق الدمار، نعمل ما بوسعنا لنسترجعهم من ساحات الحرب وساعات الزمن، ونعيدهم إليك، سالمين من الموت، حاجتنا لهم بعد الحرب انتهت، وبعد أن أكملوا المهمة، رفعناهم على الأعلام والحناجر والورق والذكرى، سرنا بهم في الشوارع العامة، طفنا بهم حول الحدائق وسياجاتها العالية، وعلى الأرصفة وفي أرقى الطرقات، رددنا أسماءهم فوق المنابر وأعالي المآذن والكنائس، وكلنا آسف، لأننا لم نجمع من الأسماء ما يكفي للأغاني، ولا استطعنا أن نحفظها عن ظهر قلب ولا باطن قلب، لكننا أضفناها وخلطناها مع الأسماء القديمة في العهد، ومنذ النكبة، عطا الزير، دلال المغربي، هدى الشاطئ (البنت الصرخة) ومحمد الدرة وفارس عودة وإيمان حجو، ولأن أطفالك أيها الشعب، رفضوا هذه المرة أن يموتوا فرادى، لم نستطع أن نخلد ذكراهم ولا أسماء مدارسهم أو كتبهم، كل ما لدينا منهم وبعد أن توقفت الحرب المدمرة في حينها، بضعة قصاصات أحلام رسمت على دفاتر متعبة، بالأسود الفاتر والأبيض الخاثر، واحترقت ليس بسبب هزة أرضية طال عمرها على أرض الفجائع، بل لأن عدو الإنسانية أعلن ومنذ البداية، كراهيته العمياء للضحية، وحتى بعد اغتصابها، والسبب يخصه هو على نحو أكيد، وهو من يعلم أنه لن يستطيع أبداً أبداً، أن يفلت من ذاكرة الضحية العصية على النسيان والفناء.
نحن هنا، ننتظرك على مشارف نكبتك الأخيرة، فلا تعذرنا يا أيها المضرج بالدم العاري والواضح المكشوف، على نظرات التاريخ الأعمى والأخرس، هذا الذي لا يرى من جرحك، سوى نقطة دم مبعثرة، على بقعة ذاكرة عالم مؤقتة ومعطلة، تعطلت أحاسيسه التي شردها الظلام المتفشي على وجه الدنيا، وجيوش الموت الجائعة لأي انتصار ولو على العدم، ولو كلفها ذلك، تعليق الأرض بما تحمل عليها من زرع وبشر وضرع، على فوهات المدافع وعلى صواريخ أفلتت من الوقت ومن مدار العقول الكاسحة للبشر.
ثقبت الأرض أيها الشعب، ونزلت إلى أعماقها لتحيا، والتحمت فيها لا لتنجو من الحصار بل لترد الاعتبار للحياة التي لا زالت فيك وغابت عنا، يا من أرادوك أن تكون عبرة لغيرك، يا من أجبروك وأكرهوك لكي تدمن الموت، فأوسعوك قتلاً وفتكاً وناراً ودماراً، يا من جعلوك قبراً عائماً لأجدادك وأحفادك، لكنهم ذهلوا من قدرتك على عشق الأرض وزواجك منها، ذهلوا وجنوا بسبب إصرارك على عشق الحياة.
أيها الصابر، لا تنكسر، أيها الثائر المكابر لن تنكسر، عليك تتوقف المعاني، فالحرية أنت، والكبرياء أنت، ولا أحد غيرك يحسن شرح المعاني وما تصبو إليه وتحن إليه، يا من تمسك الأرض من أطرافها الأخيرة، يا من توسع معنى الوطن وبأكثر من صورة… كم اقتلعوك وكم دمروك وشردوك وسجنوك وصلبوك وكم فصلوك عن بعضك وكم أحرقوك وحرموك من زيارة ذاتك الممزقة، وكم قيدوك وكم أبعدوك وكم وكم ولكن في النهاية لا بد لهم من الجنون وحدك الباقي على الأرض ووحدك الصامد في الحياة.
ـ باء ـ
هم لا يحترقون لغياب الماء عن أفواههم التي تصحرت وأجسادهم التي تشتعل فيها النار ليل نهار، ولا لأن عيونهم نشف منها الدمع، فالبكاء لم ينقطع منهم وهو كالنهر يجري وإن كانوا يطوفون به، فهم أيضاً من لحم ودم كسائر البشر. وهم لا يتضورون جوعاً ومقتاً لفقدان الطعام من وفي ديارهم الآيلة للوداع الأخير أو التي تطايرت، أو لأن هبات العالم المتحضر عالقة خلف قضبان معبر رفح أو لأن المعابر الأخرى مغلقة حتى في وجه السماء، ولا لأن جميع المعابر لا تمن عليهم بأقل مما منحوا من غلال وفيرة ألقيت عليهم وبالتساوي من السماء والبر والبحر، طيلة أيام الحرب ولياليها. هم ينفجرون ويتفجرون غيظاً وجنوناً، لأن الدعم المطلوب ومن كل العالم في الموقف من القضية وليس من الحالة التي آلت إليها القضية في الحرب وما بعد الحرب!!
هم وإن استطاعوا مقاومة الجوع منذ بدء الحصار مروراً بالحرب وإلى الآن، وهم وإن لم يستطع الوحش – وحش الحياة ـ إذلالهم وإرغامهم على الانسحاب من الحياة وعلى الاستسلام، وهم ورغم أنهم تكيفوا مع الحصار والدمار، إلا أنهم لا يتوقون لشيء في الدنيا قدر توقهم للحرية، ويرفضون الاستعباد بشدة، ويرفضون بعذاب ما بعده عذاب، كل أشكال القهر والتعذيب والاضطهاد.
والشعب في غزة، أعلنها ويعلنها هذه المرة، بدمه المستباح، انتفاضة ثالثة لم يشهد التاريخ مثيلاً لها ولن يشهد… انتفاضة ثالثة على الموت وعلى الذل والعار وعلى كل شيء، وعلى العالم كل العالم أن يسمع وأن يفهم وأن يتحمل، وعلى أرباب الثورة أن تتعلم، والشعب يعلم أن هذه النكبة هي نهاية النهايات، ويعرف أن عليه أن يضع خاتمة لهذه النهاية المفجعة وعليه أن يزف عليها موته وأمام كل العالم، بحرية وكرامة وشموخ وإباء.
كاتب فلسطيني يقيم في كندا
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

قتلى وجرحى في تفجير مبنى بقوة من لواء غولاني برفح
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام قتل عدد من جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي وأصيب آخرين في رفح، اليوم الخميس، وفق وسائل إعلام إسرائيلية، فيما قالت كتائب...

شهيد وجرحى في سلسلة غارات إسرائيلية على جنوب لبنان
بيروت - المركز الفلسطيني للإعلام استشهد مواطن لبناني وجرح آخرون، في سلسلة غارات شنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على جنوبي لبنان، اليوم الخميس، على ما...

حصيلة الإبادة ترتفع إلى أكثر من 172 شهيدا وجريحا
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أفادت وزارة الصحة بغزة، اليوم الخميس، بأن مستشفيات القطاع استقبلت 106 شهداء، و367 جريحا وذلك خلال 24 الساعة الماضية...

الادعاء الروماني يحيل شكوى ضد جندي إسرائيلي إلى النيابة العسكرية
بوخارست - المركز الفلسطيني للإعلام أعلنت مؤسسة “هند رجب” أن المدعي العام في رومانيا أحال الشكوى التي تقدمت بها المؤسسة ضد جندي إسرائيلي إلى مكتب...

الاحتلال يحول الصحافي الفلسطيني علي السمودي إلى الاعتقال الإداري
رام الله - المركز الفلسطيني للإعلام حوّلت قوات الاحتلال الإسرائيلي، اليوم الخميس، الصحافي الفلسطيني علي السمودي من جنين، شمالي الضفة الغربية،...

“موت ودمار لا يمكن تصوره”.. منظمة دولية تطلق نداءً لوقف النار في غزة
لندن - المركز الفلسطيني للإعلام أطلقت "منظمة أوكسفام الدولية"، نداءً مفتوحًا يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في قطاع غزة، محذّرة من استمرار الكارثة...

شهيد وإصابات برصاص الاحتلال في البلدة القديمة بنابلس
نابلس - المركز الفلسطيني للإعلام استشهد شاب، متأثرا بإصابته برصاص الاحتلال الإسرائيلي، خلال اقتحام البلدة القديمة من مدينة نابلس، شمال الضفة الغربية...