الثلاثاء 13/مايو/2025

ممالك النمل في الأنفاق الفلسطينية

ممالك النمل في الأنفاق الفلسطينية

صحيفة القدس العربي اللندنية

تعتبر الأنفاق أو الممرات السرية التي توصل المدن والقلاع بالخارج أثناء الحروب والحصار، الشرايين التي تمد المحاصرين بالحياة، وقد كتبت في الأدبيات التاريخية التي اهتمت بإرادة الشعوب عن هذا التحدي الممزوج بالظلام والسرية والتراب والخوف والتعب، وعن قهر الأعداء الذين كانوا يهدفون إلى عمليات الخنق مع سبق الإصرار، لكن سرعان ما تكون المفاجأة بأن المحاصر قد انتصر بفضل الأنفاق التي منحت التوهج الإنساني الذي رصد المعادلة الهندسية، التي تؤكد أن أقصر الطرق بين نقطتين الخط المستقيم، لكن أقصر الطرق لتحدي العدو البقاء حياً رغم أن العدو وضعك في أرشيف الموتى.

والأنفاق أو الممرات السرية التي يحفرها الفلسطينيون تحت مدينة رفح الحدودية والتي تستخدم لتهريب البضائع والأسلحة بين قطاع غزة المحاصر ومصر أصبحت تشكل ظاهرة تاريخية، إنسانية، في زمن يتمتع بالحضارة المفتوحة والتجارة المباحة والحروب التي اتخذت أشكالاً وألواناً وطرقاً في الأرض والجو والبحر ولم يعد للأنفاق طعم التاريخ المسلح بالحصار، لكن الاحتلال الإسرائيلي يريد أن يثبت للعالم وللتاريخ أنه ما زال مخلصاً لعقلية هؤلاء الذين فتحوا صفحات التاريخ وسجلوا فيه فوائد حصار الشعوب التي تستسلم عندما تصبح المعد خاوية ولا جدوى من المقاومة.

العالم يرى الحصار المفروض على قطاع غزة ويتصرف من منطلق حكمة القرود الثلاثة “لا أرى لا أسمع لا أتكلم”، والدول الغربية التي تفتخر بأنها واحات الديمقراطية وحقوق الإنسان تحاول أن تخدر أحاسيسها بشعارات واهية، ولا عتب على الدول العربية والتي نعرف حقيقة ارتباطها السري بالحبل الأمريكي والتي يشكل عندها الثعبان الذي يرعبها تحركه.

من منا لم يشاهد البضائع والحيوانات من أبقار وماعز وهي تنقل عبر الأنفاق الفلسطينية، عمليات شاقة ومرهقة ومكلفة، لكنها الطرق الوحيدة للوقوف أمام الاحتلال الذي يحاصر السماء والأرض والبحر، وخاصة عندما تكون المساومة المصرية على الحدود والمعابر جزءاً من وسائل العقاب الجماعي للتركيع وغسل الأيدي من نبض المقاومة، والمضحك المبكي أن تتحول بوابات المعابر الحدودية المصرية إلى “قطارة” ومزاج ونشرة أخبار مفرحة، وكأن فتح المعابر بحاجة إلى شهادات وسائل الإعلام التي تنقل الخبر بالصوت والصورة وتتحول اللقمة وحبة الدواء إلى ثناء وغزل في رحابة صدر مبارك الذي سمح بفتح المعابر لمدة يوم أو يومين. لا يوجد في هذا القرن أسوأ من هذا الحصار وفي السنوات القادمة سيسجل التاريخ أن الحصار الإسرائيلي لقطاع غزة هو آخر الحصارات البشرية وآخر انتهاك لجوع الإنسان وحرمانه من أبسط قواعد الحياة. وما زالت ملاحقة الأنفاق سارية بالتفجير والإغلاق والتفتيش من قبل المسؤولين الغربيين الذين يتواطأون مع الاحتلال الإسرائيلي والحكومة المصرية ويغلقون الآذان على أنات المرضى والجوعى.

فيلم “مملكة النمل” يحكي قصة الأنفاق الفلسطينية والتي أكد المخرج التونسي “شوقي الماجري” أنها جنة تحت الأرض، لأن فوق الأرض لا يحتمل. بطش وقتل وسجون وشهداء وتدمير وقصف وموت لا تعرف من أي جهة سيأتي، لأن الفلسطيني معلق على جميع الجهات وجسده خريطة لتصويب الطلقات.

“مملكة النمل” يحكي التفاصيل اليومية للأنفاق، ولأول مرة يطرق هذا الموضوع مع أن السينما العربية لم تمنح القضية الفلسطينية أي أهمية تذكر سوى بعض اللقطات هنا وهناك، وبقي الفيلم الفلسطيني قزماً أمام القضية والشعب والمذابح ولم يستطع الوصول إلى شاشات الإقناع العالمي وانحصر في الحنين والذكريات والصور وخيام اللجوء.

المخرج التونسي “شوقي الماجري” سبق له أن اخرج مسلسل “اجتياح” الذي أعاد به إلى الأذهان الاجتياح الإسرائيلي للمدن الفلسطينية خاصة مدينة جنين مع بطلها “الشهيد الحي أبو جندل”، وقد حصل هذا المسلسل على جائزة “ايمي” عام 2008 التي تمنحها الأكاديمية الدولية للفنون التلفزيونية في الولايات المتحدة. وهو أول مسلسل عربي يحصل على مثل هذه الجائزة.

لعل “مملكة النمل” يلقي الضوء جيداً على معاناة قطاع غزة، فما زالت السينما الفن السابع الذي له قوة التأثير والتوضيح. المؤسف أن لا تشترك منظمة التحرير في هذا الإنتاج السينمائي، مجرد مساهمتها في الإنتاج يظهر اهتمامها في إبراز القضية الفلسطينية وأنها لا تتعامل مع الحصار بعيون المتفرج.

* كاتبة من فلسطين

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات